الثلاثاء 2021/03/16

آخر تحديث: 12:27 (بيروت)

التقليد بين التبنّي والرفض

الثلاثاء 2021/03/16
التقليد بين التبنّي والرفض
هل من سبيل للخروج من مأزق الإفراط في الاستنجاد بالتقليد
increase حجم الخط decrease
من سوء حظّ الذين يدافعون عن مفهوم التقليد اليوم، أنّهم يحيون في زمن يُطلق عليه ناسه تسمية عصر ما بعد الحداثة. هم يحسبون طبعاً أنّ هذه التسمية تتيح لهم أن ينصرفوا إلى مهمّة الدفاع عن التقليد بفاعليّة أكبر. فأحد أبرز معالم الحداثة يكمن في مساءلة القديم برمّته وعدم الاعتراف له بأيّ سلطة قيميّة تنبثق من مجرّد أنّه قديم. هذا الموقف الذي تبنّاه، مثلاً، ديكارت في الفلسفة عبر دعوته إلى إعمال الشكّ المنهجيّ في كلّ ما هو موروث يتعارض بشدّة وموقف الأقدمين الذين كانوا يعتبرون أنّ عتاقة الأفكار قيمة في ذاتها. المفكّر المسيحيّ يوستينوس الفيلسوف (القرن الميلاديّ الثاني) ذهب، مثلاً، إلى أنّ التوراة أعظم سلطةً من الفلسفة اليونانيّة، كونها أقدم منها. الحداثة، طبعاً، قلبت هذا المنطق رأساً على عقب حين اعتبرت أنّ العقل البشريّ هو المعيار وأسبغت عليه الحقّ في مساءلة كلّ موروث.

لكنّنا اليوم، يقول المدافعون عن التقليد، نعيش في زمن ما بعد الحداثة. وعندهم أنّ هذا الزمن تخطّى تشكيكيّة الحداثة في الموروثات القديمة واسترجع الكثير من سلطة التقليد كما روّجت لها أزمنة ما قبل الحداثة. ربّما تكون هذه الملاحظة صحيحة جزئيّاً. فحيال التعدّد المذهل في سوق الأفكار الذي يتّصف به زمن ما بعد الحداثة، يلجأ بعضهم إلى الأفكار الموروثة بوصفها الترياق. لكنّهم يتناسون أنّ كثراً من البشر في هذا الزمن يجنحون إلى تغليب الحديث على القديم لا في ابتياعهم أحدث الأجهزة الإلكترونيّة فحسب، بل في منظومة القيم أيضاً. وهنا بالذات يكمن التباس مفهوم التقليد في زمننا. فهو لئن يعين بعضهم على تخطّي معضلة التعدّد في سوق الأفكار، إلاّ أنّه يتعرّض يوميّاً للاهتزاز بفعل ذهنيّة تنزع إلى التحمّس لكلّ جديد والتقليل من شأن كلّ قديم. ولعلّ هذين الاهتزاز  والالتباس يشكّلان بمعنى ما مصدر سوء حظّ المدافعين عن مفهوم التقليد. فهم يعرفون أنّ وجوههم إلى الوراء فيما معظم البشر عيونها إلى الأمام.

حيال هذا المأزق الفكريّ، لا مناص من استنباط طريقة منهجيّة أكثر فاعليّةً للحيلولة دون أن يصبح مفهوم التقليد نسياً منسيّاً. والحقّ أنّ هذه الطريقة تستند في العادة إلى آليّتين: إمّا البحث عن عناصر حداثيّة في التقليد أو الزعم أنّه ينطوي على عناصر «جوهرانيّة»، أي غير قابلة للتبدّل وتسري على كلّ زمان ومكان.

البحث عن عناصر حداثيّة في التراث هو من أكثر «الحيل» المنهجيّة انتشاراً في زمن ما بعد الحداثة. فبعضهم يروّج، مثلاً، لنظريّة تزعم أنّ عدداً من معلّمي الكنيسة ونسّاكها، مثل يوحنّا الذهبيّ الفم ويوحنّا كاتب سلّم الفضائل، استبقوا الكثير من النظريّات السيكولوجيّة الحديثة. ومشكلة هذا الزعم لا تكمن في تقاطع ممكن بين الإلمام القديم بميول النفس البشريّة وعلم النفس الحديث، بل في ذهاب المروّجين لهذه النظريّة إلى أنّ ما أتى به الأقدمون يغنينا عن منجزات العلوم الحديثة. ونعثر على منطق مشابه لدى القائلين بالإعجاز العلميّ للقرآن الكريم. فعند هؤلاء أنّ النصوص القرآنيّة تستبق بعض أهمّ مكتشفات علوم الفلك والفيزياء والبيولوجيا، علماُ بأنّ فكرة الإعجاز العلميّ تبدو غائبةً عن المصنّفات «التراثيّة» التي تتقصّى طبيعة الإعجاز القرآنيّ وتتفحّص معالمه.

أمّا القول بوجود عناصر غير خاضعة للتبدّل في التقليد، فيبدو أكثر حذقاً من حيث بنيته المنهجيّة. لقد اعتبر المؤرّخ والمفكّر الأميركيّ ذو الأصل الروسيّ جورج فلوروفسكي، مثلاً، أنّ مسيحيّة القرون الأولى كانت قادرةً على التفاعل مع الفكر اليونانيّ الفلسفيّ إلى حدّ وضع مداميك «فلسفة» مسيحيّة تنسحب على كلّ زمان ومكان، مطلقاً عليها تسمية «الهلّينيّة المسيحيّة». ولكنّ الأكيد أنّ هذه الظاهرة لا تقتصر على الفكر المسيحيّ. فأحد زملائيّ الأكاديميّين الألمان الذين اعتنقوا الإسلام من باب التصوّف كان يدأب على القول أنّه يعتبر الأفلاطونيّة المحدثة فلسفةً تنطبق على كلّ زمان ومكان من حيث قدرتها على التعبير عن خبرة التصوّف بوصفه ظاهرةً عابرةً للأديان. أيّاً يكن موقفنا من هذه الآراء، يبدو أنّ مشكلتها الأساسيّة لا تقوم في ميلها إلى تحديد ما هو معياريّ في الحاضر، بل خصوصاً في سعيها إلى برمجة المستقبل. فما قد يبدو معياريّاً اليوم في عالم الفكر، قد لا يكون كذلك غداً، وذلك لأنّ ديناميّة التبدّل التاريخيّ لا تشي لنا بكلّ محرّكاتها اليوم.

هل من سبيل للخروج من مأزق الإفراط في الاستنجاد بالتقليد على حساب الحاضر في زمن ما بعد الحداثة؟ في المبدأ، ليس هناك من سبب لإنكار وجود عناصر معياريّة في التقليد. ولكنّ هذه العناصر يجب أن تثبت معياريّتها على مشرحة العقل. بهذا المعنى التشكيكيّة الديكارتيّة لم تفقد شيئاً من آنيّتها وبريقها. ولكنّ الأهمّ في عمارة التقليد ليست معياريّة عناصره، بل نموذجيّتها، أي قدرته على أن يضع نصب أعيننا قامات نموذجيّة من حيث عبقريّتها وإمعانها في الإبداع. فالتقليد، لولا إبداع واضعيه، لما أصبح تقليداً. ونحن اليوم لا نحتاج إلى ترداد إبداعات الأقدمين، بل إلى استلهام طابعهم النموذجيّ وحذو حذوهم عبر استنباطنا إبداعات جديدة مؤهّلةً لأن تصبح «تقليداً» للأجيال المقبلة. والحقّ أنّه ليس ثمّة طريقة أفضل لجعل الأقدمين ظاهرةً مستكرَهةً وممجوجةً ومثيرةً للاشمئزاز سوى ترداد أفكارهم على نحو ببغائيّ.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها