الأربعاء 2021/03/10

آخر تحديث: 14:03 (بيروت)

ماركيز.. حينما تسوَّل من الجزار عَظمَة لصنع حساء

الأربعاء 2021/03/10
increase حجم الخط decrease
"كتبتُ تسع روايات، وثماني وثلاثين قصة قصيرة، وأكثر من ألفي مقال صحافي وبضعة تقارير إخبارية وسيناريوهات للسينما. كتبت ذلك كله، يوماً بعد يوم، بأطراف أصابعي خلال أكثر من ستين عاماً من الوحدة مع اللذة البسيطة والخالصة والمجانية للحكي" (ماركيز).

في بدايات حياته الأدبية والصحافية، العائدة إلى أواخر الأربعينات من القرن العشرين، لم يكن أحد، وحتى غابرييل غارسيا ماركيز نفسه، ليتنبّأ بالمكانة التي سيبلغها لاحقاً. حتى أن والده، وهو ما تحتفظ به ذاكرة العائلة جميعاً ضمن أساطيرها الخاصة، كان يرى أنّ المطاف سينتهى بإبنه إلى أكل الورق. لكن وللحقيقة، فإن نبؤة الأب هذه لم تكن كاذبة تماماً، فقد شهدت حياة الكاتب الكثير من معاني الشظف والقسوة، بما يفوق التوقعات القاتمة للأب. فالتشرّد والعوز كانا، ولفترة ليست بالقصيرة، عنوان حياة ماركيز، سواء حين كان في بيت العائلة التي كانت ضائقاتها المالية شيئاً معتاداً، أو حين استقلاله عن العائلة بدءاً من دراسته الثانوية، وصولاً إلى مرحلته الجامعية عند دراسته الحقوق التي فضّل خلالها قراءة كل ما يقع تحت يده وبما يساعده على اكتساب تقنيات الكتابة القصصية والروائية، متلقفاً كتابات كافكا وفرجينيا وولف وبورخِس وسواهم، وهو في ذلك كان يتجه على العكس من رغبة والديه وحرصهما الشديد على إتمامه دراسته والانخراط في الوظيفة، إذ أن جوابه القاطع لهما كان على الدوام أنّ ما يريده في الحياة هو أن يكون كاتباً لا غير. وهو الذي نشر أول قصة له بعد تخرجه في الثانوية بتسعة أشهر، في واحدة من أكثر الصحف الصادرة في العاصمة بوغوتا أهمية وصرامة في ذلك الوقت، وهي صحيفة "الاسبكتادور". كان يقول عن تلك الفترة "كنت متخلفاً عن الخدمة العسكرية... وأًدخن كل يوم ستين سيجارة من صنف تبغ رهيب. وأقضي بطالتي بالتناوب بين بارانكيّا وكارتاخينا دي إندياس، على ساحل الكاريبي الكولومبي، بالبقاء حياً على أحسن وجه بما يدفعونه لي مقابل ملاحظاتي الصحافية اليومية في جريدة الهيرالدو، وهو أقل من لا شيء تقريباً".

ويمكن أيضاً تبيّن وطأة الظروف التي عاشها الكاتب من خلال وصفه الذي قدمه لنفسه ببنطلون الجينز والقميص الوحيد الذي لا يملك سواه والصندل الذي ينتعله، وأيضاً عبر ما ذكره عن انطباع الآخرين عنه، حيث كان ذات مرة متواجداً مع عدد من أصدقائه في قاعة سينما لمشاهدة فيلم، فسمع أحدهم يقول، ظاناً أن ماركيز لا يسمعه: "يا لغابيتو المسكين، إنه حالة ميؤوس منها". قد تكون هذه العبارة تلخيصاً حياً لحالة الكاتب ووضعه حينذاك، حيث الإدقاع حدّ عدم امتلاك خمسة سنتات لشراء نسخة من الجريدة لكي يطلع على قصة منشورة له، مما أضطره إلى الطلب من أحد المارّة، وكانت معه، بإهدائها له، بعدما عجز حتى عن تدبّر ثمنها من طريق الاستدانة. لقد كانت السنتات الخمسة هي الرمز الأكثر جلاءً للفقر، حسب تعبيره، بما أنها كانت ثمن الكثير من الأشياء اليومية الأساسية، كفنجان القهوة، والترام، والهاتف العمومي وغير ذلك. هذا الوضع الاقتصادي الحرج لم يكن ليقتصر على فترة بدايات ماركيز، بل حتى بعدما قارب الأربعين من العمر، وغدا كاتباً وصحافياً معروفاً يكتب لأكثر من صحيفة ومجلة، فكان في حالة طراد دائم كيما يشعر بالأمان ويتمكن من توفير المال لسداد ديونه. إن جملة "غابيتو الميؤوس منه"، تلتقي مع جملة الأب، الآنفة، التي عبّرت عن يأسه، هو الآخر، حيال ذلك الفتى الفقير المتمرد بملامحه الكاريبية الذي غدا، لاحقاً، واحداً من أشهر الكتّاب على وجه الأرض وأكثرهم ثراءً، وربما أكثرهم تأثيراً. وهو ما يستدعي هنا، عرض ملمح سريع من ملامح المكانة التي بلغها الكاتب، كما مثله المؤتمر الذي نظمته الأكاديمية الملكية الإسبانية العام 2007 في كارتاخينا في كولومبيا لمناسبة بلوغه الثمانين، والذي حضره ملك وملكة إسبانيا، والرئيس الأميركي الأسبق بيل كلنتون، وأربعة رؤساء جمهورية سابقين لبلده كولومبيا، إضافة إلى الرئيس الذي يشغل المنصب أيامها، عدا عن الشخصيات الأدبية الرفيعة مثل الكاتب المكسيكي، كارلوس فوينتس، وهو أحد أقرب أصدقائه، وسواه من الشخصيات العامة العديدة الأُخرى، ذات الشهرة العالمية، حتى قيل إنه لم يتغيب عن ذلك المؤتمر سوى كاسترو الذي كان مريضاً، وبابا الفاتيكان.

 

المرحلة الباريسية: ليس لدى الكاتب ما يأكله
في العام 1955، أوفِد غارسيا ماركيز من قبل صحيفة "الاسبكتادور" الكولومبية التي يعمل فيها، إلى أوروبا بغرض تغطية مفاوضات القوى العظمى الأربع في جنيف: الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا والاتحاد السوفياتي، إبان حقبة الحرب الباردة، من أجل عالم أكثر أماناً. وكان ماركيز واحداً من قرابة ألفَي صحافي حضروا للغرض ذاته. وبعدما وافى صحيفته بجملة تقارير عن المؤتمر لم تخلُ من الخيال الماركيزي، سافر إلى إيطاليا ومن ثمّ إلى أوروبا الشرقية والاتحاد السوفياتي، مدفوعاً بفضول شخصي واهتمام سياسي وإنساني لاختراق دول الستار الحديدي، كما كانت تُدعى، لينتهي به المطاف بالعودة إلى باريس التي كانت محطته الأولى عند وصوله أول مرّة، لتستمر إقامته فيها عامين، مفضّلاً البقاء في باريس رغم حالة التشرد والصعلكة التي عرفها، على العودة إلى كولومبيا، ورغم أنه لم يكن له من دخل، سوى فتات المال الذي كان يصله بدايةً من الجريدة. وتُبيّن الوقائع الباريسية أن ظروفه كانت من القسوة بشكل لا يمكن تصوره. فقد روى حين كان نزيلاً في غرفة صغيرة في فندق متواضع، أنه أُضطرّ في إحدى المرات إلى عدم النزول من غرفته لمدة أسبوع كامل كي لا يواجه صاحبة الفندق المَدين لها بأجور سابقة، ولم يكن يدخل جوفه سوى ماء الصنبور الموجود في غرفته. كما تسوّل، ذات مرة، عظمَة من جزار لاستخدامها في صنع حساء. وفي غمرة وضع كهذا، كان يعمد إلى بيع القناني الفارغة ليتدبر بعض يومه. وثمّة ما هو أشدّ إيلاماً ومدعاةً للتفكّر في الحال التي وصل إليها، فقد دُعي ذات يوم إلى عشاء في بيت عائلة كولومبية صديقة مع أصدقاء آخرين، وعند مغادرتهم طلبت منه سيدة المنزل أن ينظف المائدة، فما كان منه إلا الاستجابة لطلبها وحمل بقايا الطعام معه في كيس إلى غرفته. في ظروف كهذه وبحافز منها ولدت رواية "ليس لدى الكولونيل من يكاتبه"، متذكراً حكاية جده الذي كان ينتظر راتبه التقاعدي حتى الموت.

يمكن القول أن غارسيا ماركيز بقي يعاني البؤس في شتى أشكاله حتى العام 1967 أي عام صدور أسطورته "مائة عام من العزلة" هذه الرواية التي قدحت شرارة شهرته العالمية، ونسفت حالة الفقر والقلق على الغد، وأكسبته قلوب ملايين القراء حول العالم، وقرأها مصارعو الثيران والراقصات. لم يكن هذا النجاح عشوائياً، فقد أخذت الرواية من تفكير الكاتب أكثر من عقدين، وكانت مشروعه الروائي الأول الذي بدأه في سن السابعة عشرة، بعنوان "البيت"، لكنه تخلى عنه، غير أنه بقي دائم التفكير فيه. وليس مستغرباً أن يبلغ تأثير هذه الرواية، ثقافياً، إلى حد كتابة أحد النقاد عنها، أنها جرت في الحمض النووي لثقافة أميركا اللاتينية ولم تعد تنفصل عنها. فيما كان وصف الناقد هارولد بلوم لها، يعبّر عن انبهار غير محدود، قائلاً عنها أنها "معجزة غير مسبوقة"، كما اعتبرها، مع رواية "الحب في زمن الكوليرا"، كتاباً مقدساً، ورأى أن "العزلة" هي العهد القديم و"الكوليرا" تمثّل العهد الجديد. وهي أرفع نظرة نقدية يمكن أن تُسقَط على كتاب. ولم يكن ماركيز يخشى أو يخجل من الحديث عن فقر الأيام الماضية، بل حوّل تلك الوقائع والذكريات إلى أساطير ونوادر، وبقدر ما كانت شخصية، فإنها تحوّلت إلى تراث في ثنايا الذاكرة الأدبية الإنسانية. مثال ذلك ما بقي يذكره حتى آخر أيامه، وفي أكثر من مناسبة، عن واقعة عدم تمكنه من إرسال مخطوطة رواية "مائة عام..." كاملة إلى ناشره الأرجنتيني، بسبب افتقاره إلى كلفة البريد فأُضطر إلى تقسيم المخطوطة وإرسالها على دفعتين بعدما رهن بعض حاجياته المنزلية للتمكن من إرسال القسم الثاني منها. من هنا يمكن القول إن أعمال ماركيز الإبداعية، بمعنى ما، كانت تاريخاً لفقره وشظفه الذي عاناه، حتى مرحلة "مائة عام من العزلة" التي غيّرت هذه الظروف إلى الأبد. وليس المقصود بتأريخ فقر ماركيز أن تتحدث هذه الأعمال عن ذلك، وإن كانت ضمناً تتم الإشارة اليه، أو أنّ العمل بكامله قائم على ذلك أو منطلق منه، كما في "ليس لدى الكولونيل من يكاتبه" الآنف الذكر. بل المقصود هو أن أدبه كان شاهداً على ذلك الفقر وقد خرج من بين أنيابه. ليبدأ تاريخ الكاتب الشخصي والإبداعي بمرحلة جديدة مغايرة هي مرحلة ما بعد "مائة عام..."، والتي استمرت إلى ما بعد وفاة ماركيز الذي بيع أرشيفه الخاص بمبلغ 2,2 مليون دولار إلى جامعة تكساس الأميركية. أما ثراء المجد والتكريم الذي حظي به وبشكل استثنائي، طوال تاريخ الأدب، فهو شيء لا يُحسب مغزاه بما هو مادي. فقد قيل إن التقدير والاهتمام الذي ناله ماركيز في حياته يعادل ما ناله سيرفانتس صاحب العمل الملحمي "دون كيخوته" في أربعة قرون.

مصادر المقال:
سيرة حياة غابرييل غارسيا ماركيز: جيرالد مارتن، ترجمة د. محمد درويش.
عشت لأروي: غابرييل غارسيا ماركيز،  ترجمة صالح علماني.
غريق على أرض صلبة: غابرييل غارسيا ماركيز (مقالات)، ترجمة: مها عبد الرؤوف.
هارولد بلوم: سلسلة الرؤى النقدية الحديثة: غابرييل غارسيا ماركيز (مقال)، ترجمة أمير زكي.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها