الإثنين 2021/03/01

آخر تحديث: 14:22 (بيروت)

"جيبير" تقفل أبوابها: رحيل قرن من الكتب

الإثنين 2021/03/01
"جيبير" تقفل أبوابها: رحيل قرن من الكتب
Gibert Jeune وداعاً
increase حجم الخط decrease
لا مبالغة في القول أن كل من عاش في باريس، ولو لوقت قصير، كان، وفي حين سيره في نواحي قلبها، قد استوقفته مكتبة " Gibert Jeune"، وهذا، ليس لكونها تقع في الحي اللاتيني فحسب، بل، وأيضاً، لأنها، وفي تقديمها الكتب، كانت تفعل ذلك بطريقة بعينها.

هذه الطريقة تفيد، بدايةً، بكون "جيبير" تعرض كتبها أمامها بوضعها في وجهات بدرجات خشبية، فتبدو على تنسيق لوني وشكلي، غالباً ما ينتجه وضع نسخات عديدة من الكتاب نفسه الى جانب بعضها البعض. بالطبع، الكتاب هذا، وفي الكثير من الأوقات، هو كتاب مدرسي أو جامعي، من قبيل مؤلف القانون الجزائي. أما، وحين لا تعرض "جيبير" كتبها هكذا، فتعمد الى صفها أو تكديسها في سلل وعلب، تمتد من داخل المكتبة الى قدامها، ومنها، ترتفع لافتات تشير الى أسعار موحدة. وفي أوقات كثيرة، تكون هذه الكتب "مستعملة"، أي مقروءة من قبل أناس، عادوا وباعوها أو وهبوها للمكتبة على سبيل التخلص منها.

بتقديمها الكتب بتلك الطريقة، كانت "جيبير" تحتل المشهد في ساحة سان ميشيل. واحتلالها له يرتبط بكونها حولته الى ما يشبه سوق شعبي للكتب، أو بالأحرى الى "بسطتها". ففي هذه "البسطة"، الكتب ليست سوى بضائع منسقة ومكدسة، وبالتالي، هي ليست على هئيتها ذاتها كما في غير مكتبات، حيث تبدو على رِفعة أو على سحر غرضيَين. ففي "جيبير" الكتب تكاد تكون مرمية، ليس في الواجهات فحسب، بل وأيضاً على الرفوف وعلى الطاولات. وإن كانت تخسر في هذه الناحية تلك الرفعة أو ذلك السحر، فهي تربح شيئاً معيناً، وهو حضورها في المتناول، في أيدي القراء. وهذا ما يتعلق، على الأرجح، بمنظور "جيبير" حيال الكتب بما هو منظور جعلها على مقربة من الزبائن، أي، وبعبارة أخرى من دون الأخذ الدقيق بمعناها، "دمقرطتها" في سياق مشروع جعل الثقافة ثقافة متاحة للعموم. وعلى هذا النحو، كانت "جيبير" توفر الكتب لزبائنها هؤلاء مثلما كانت تشتريها منهم لتكون بمثابة مصدر دورانها بين أيديهم، مستهدفةً إياهم على مختلف أعمارهم واهتماماتهم، لكي يكون، ولكل زبون منهم، كتابه.


فعلياً، لم تصل "جيبير" الى منظورها ذاك حيال الكتب مباشرةً، إنما تدرجت اليه على طول تاريخها الذي يختصر تاريخ قرن بكامله. فها هو جوزيف جيبير، أستاذ الآداب، يفتتح العام 1886 "دكاناً" كتبياً على رصيف سان ميشيل قبل أن يحوله لاحقاً الى مكتبة في المكان نفسه. وعندما يموت، يرثه ولداه، جوزف ورجيس، اللذان جعلا من المكتبة مكتبتين. الأول، يفتح "جيبير جوزيف"، والثاني "جيبير جوون"، ثم، وبعد سنوات، يعود جوزيف الى شراء حصة ريجيس، أو اعانته على عدم اقفال مكتبته بالكامل. على هذا المنوال، ومن الأب الى الأبنَين وبعدهما الأحفاد. وفي حين كانت "جيبير" تتبدل كـ"مصلحة" عائلية، كانت تتبدل كمكتبة، أي من "دكان" الى كونها شركة كبرى تتيح الكتاب لكل الزبائن ومن كل الزبائن على "بَسطاتها".

بيد أن "جيبير"، وفي حين تبدلها ورسوّها على منظورها حيال الكتب، نافل القول انها كانت تصطدم بالمشكلات، مراكمة اياها، وهذا، إلى حين لم تعد الظروف تساعدها: تراجع مبيع الكتاب الورقي، صعود "أمازون" وسواه، ثم حريق نوتردام وإبعاده السياح، وبعده، الكورونا وحَجرها، وأخيراً، بيع المبنى... ما دفع بالمكتبة إلى التخلي عن الكثير من موظفيها، مقررة البدء بالتصفية، على أن تقفل أبوابها نهائياً، الشهر الحالي. وبهذا، تنتهي قصة "جيبير"، أو بالأحرى فصل كبير منها، وقد امتد لعقود، لتحضر فيه أجيال وأجيال من القراء، والطلاب، والكتّاب، من جيد إلى فيليب بيسون، ومن مارلو إلى جابلونكا، وهذا، قبل أن ينقضي، ويطفئ الحي اللاتيني ضوءاً من أضوائه. 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها