الأحد 2021/02/28

آخر تحديث: 10:53 (بيروت)

موت الإسكندر

الأحد 2021/02/28
increase حجم الخط decrease
ما أشبه اليوم بالأمس. داء الكورونا الذي يجتاح عالمنا اليوم، ولا يفرّق في زمننا الراهن بين عظيم وحقير، بين ملك ومملوك، أليس هو صنو تلك الحمّى التي أرجفت الاسكندر الكبير، الباسط يديه على الشرق والغرب، وجعلته يذوي وينطوي كما يذوي وينطوي الطود الشامخ؟ 

في العشرين من عمره، خلف إسكندر المقدوني والده فيليبوس ملك مقدونيا، وحلم بالشرق. اجتاح أمبراطورية الفرس وهزم ملكها داريوس في عام 333 قبل الميلاد، ثم أخضع بعدها الساحل السوري وفتح مصر وأسس الإسكندرية، وواصل مسيرته فتعقّب أكبر ملوك الأخمينيين وقضى عليه في معركة كوكميلة قرب أربيل بعد سنتين من انتصاره عليه في إيسوس. وبعدما بلغ من المجد ما بلغ، أصيب بالحمّى في بابل، وقضى وهو في ريعان شبابه، إذ لم يتجاوز الثانية والثلاثين إلا بثمانية شهور.

في العالم الإسلامي، عُرف الإسكندر الكبير بذي القرنين، وهو وفقا للرواية التي وردت في سورة الكهف (83-97) الحاكم الذي أخضع له الدنيا بأطرافها من مشرق الشمس إلى مغربها، وقال بثواب الذين سيؤمنون، وبنى دفاعاً عن شعب مقهور جداراً أُعِدّ لصدّ زحف يأجوج ومأجوج المفسدين في الأرض. جعل الرواة من الإسكندر أشهر الغازين الفاتحين وأعظمهم شأناً، وضربوا به المثل في طوافه وفتوحاته، فأضحى مثالاً للحاكم الذي جمع بين الملك والحكمة. ذكره الشهرستاني في الكتاب الثاني من موسوعته "الملل والنحل" كواحد من "متأخري حكماء اليونان"، وقال في تعريفه به: "هو ابن فيليبوس الملك، وكان مولده في السنة الثالثة عشرة من ملك دارا الأكبر. سلّمه أبوه إلى أرسطوطاليس الحكيم المقيم بمدينة إينياس فأقام عنده خمس سنين يتعلم منه الحكمة والأدب حتى بلغ أحسن المبالغ ونال من الفلسفة ما لم ينله سائر تلاميذه، فاستردّه والده حين استشعر من نفسه علة خاف منها، فلما وصل إليه جدّد العهد له وأقبل عليه، واستولت عليه العلّة فتوفّي، واستقلّ الإسكندر بأعباء الملك".


في "مختار الحكم ومحاسن الكلم"، جمع المبشّر بن فاتك طائفة من أقوال "الملك الحكيم ملك ملوك الدنيا"، وقال في تعريفه بهذا الملك: "كان اليونانيون في الحين الذي ملك فيه الإسكندر، طوائف كثيرة لا يجمعهم ملك واحد. فجعل الإسكندر يغزو ملوك قومه حتى جمعهم وملك عليهم، وهو أول من جمع اليونانيين على ملك واحد. ثم نازعته نفسه إلى غزو ملوك المغرب جميعا فغزاهم وظفر بهم، فملك المغرب بأسره". ولم تقتصر مقاصد هذا الملك على السلطة والحكم، فقد قذف الله في قلبه معرفته، وألهمه حكمته، ودلّه على عبادته، فراح يدعو الناس إلى "التمسك بطاعة الله عز وجل"، واستنهض جنده "إلى الدعاء إلى التوحيد والعدل"، ورأى "إن لله محامد تصعد عن أفواه الديانين له من كل أمة وأهل كل لسان وملة"، وعرف كيف يجد الخالق "بجميع ما يقبله مما أحاطت به الألسن واللغات". تنبّأ المنجمون بموت ملك الملوك "على أرض من حديد تحت سماء من ذهب"، وتحقّق ذلك بعد حين، "فبينما هو يسير ذات يوم، إذ رعف رعفاً شديداً، فأجهده الضعف حتى مال عن فرسه. فنزل بعض قوّاده، فنزع درعه وفرشها له وظلّله من الشمس بترس مذهب. فلما رأى ذلك قال: هذا أوان منيّتي". ودعا بكاتبه ليملي عليه كتاباً يوجّه إلى أمه قبل أن يموت، وكان أوّل هذا الكتاب: "من العبد بن العبد الإسكندر رفيق أهل الأرض بجسده قليلا، ومجاور أهل الآخرة بروحه طويلا".


بحسب ما جاء في هذه السيرة، "كان بدء مرض الإسكندر بقومس (في بلاد فارس)، واشتد بشهرزور (في السليمانية)، ومات بروستقباذ (نواحي الكوفة، بين الأحواز وبغداد). وكان قد أوصى إذا هو مات أن تكفّن جثته وتجعل في تابوت من ذهب، ويُحمل إلى الإسكندرية فيُوارى بها. فجُعل في تابوت من ذهب حفظاً لوصيته وإعظاماً له عند الدفن. وأُخرج محمولاً على مناكب العظماء والأشراف من الملوك وأهل البيوتات حتى وُضع وسط أهل مملكته من الملوك والحكماء والوزراء والأمراء وسائر طبقات الناس". وقيل في مأتمه: "هذا الذي قهر الناس بملكه أمس قد أصبح اليوم لديهم مقهوراً"، "هذا الذي كان بالأمس قويا عزيزا أصبح اليوم ضعيفا ذليلا"، "هذا الذي كان أمس للملوك آسراً أصبح اليوم لدينا مأسوراً"، "هذا الذي طوى الأرض العريضة ما بين الأفقين قد طُوي في قدر ذراعين".

وختم المبشّر بن فاتك حديثه عن الإسكندر بالقول: "ملك وله تسع عشرة سنة. وكانت مدّة ملكه سبع عشرة سنة وكسراً، منها تسع سنين محارب، وثماني سنين مطمئن بغير حرب. وغلب اثنتين وعشرين أمّة، وثلاث عشرة عشيرة من عشائره. ويُقال إنه في ذهابه من المغرب إلى المشرق طاف الدنيا في سنتين. ولم يلبث بعد غلبته لدارا إلا ست سنين وكسراً".


إسكندر الفارسي

في بلاد فارس، تحوّلت صورة الإسكندر بشكل جذري بعد دخولها في الإسلام. وتكرّس هذا التحوّل بعد ان صاغ فطاحل الشعر سيرة مثالية للفاتح الشهير. في ملحمة "شاهنامه"، استعاد الفردوسي سيرة الإسكندر، وجعل منه بطلاً فارسياً، وذلك بعد ان تبنّى رواية نقلها الدينوري في "كتاب الأخبار الطوال". تقول هذه الرواية ان العلماء اختلفوا في نسب الإسكندر، "فأمّا اهل فارس فيزعمون انه لم يكن ابن الفيلفوس (أي فيليبوس)، ولكن كان ابن ابنته، وان أباه دارا بن بهمن". غزا دارا أرض الروم، وعقد صلحا مع فيليبوس، وتزوّج من ابنته وحملها معه إلى وطنه، غير انه نفر منها بسبب رائحة ذفرها، فردّها إلى أبيها، وكانت تحمل في أحشائها طفلا منه، إلا انه كان يجهل ذلك. وهكذا وُلد الإسكندر، فتكفّله فيليبوس، ثمّ جعل منه وريثه على العرش. في المقابل، تزوج دارا من امرأة فارسية، وأنجب منها داريوس الثالث الذي حكم من بعده، وعُرف بظلمه وبغطرسته، وعندما هزمه الإسكندر، وبسط سلطته على بلاد فارس، آلت السلطة إلى الملك "الشرعي".

تبنّى الفردوسي الرواية الإسلامية التي تقول بأن ذي القرنين أخضع له الدنيا من مشرق الشمس إلى مغربها، وبنى جداراً صدّ يأجوج ومأجوج، كما تبنّى رواية أخرى تقول بأن الفاتح التقى في طوافه بالخضر، وسار معه إلى أن وصل إلى هذه الظلمة التي لا يدخلها أحد، وعزم على دخولها ليشرب من مياه الحياة الأبدية، غير أنه تاه في هذه الظلمة، وعاد إلى بلاده، وأحسّ بدنو أجله، فكتب إلى والدته، وتوفّي ودُفن في الإسكندرية في موكب جليل.

بعد الفردوسي، استعاد نظامي الكنجوي هذه السيرة في قصيدة مطولة حملت عنوان "اسكندرنامه"، أي "كتاب إسكندر"، ونسج حولها طائفة من الأخبار والحكم. بدوره، وضع أمير خسرو الدهلوي منظومة "عين إسكندر"، ونظم نور الدين عبد الرحمن الجامي من بعده "خردنامة إسكندري"، وأخذت معهم قصة ذي قرنين أبعادا جديدة. هكذا عاشت هذه القصة في الوجدان الفارسي، ووجدت ترجمتها التشكيلية في المنمنمات التي رافقت نسخها المزوقة.

يحضر موت إسكندر ودفنه في عدد كبير من هذه المنمنمات. في منمنمة من محفوظات مكتبة فيلادلفيا، تعود إلى نهاية القرن الخامس عشر، يظهر الإسكندر على فراش الموت. في منمنمة من محفوظات فرير غاليري، تعود إلى عام 1330، يظهر كبار القوم وهم ينتحبون حول تابوت ملك الملوك. وفي منمنمة من محفوظات متحف متروبوليتان تعود إلى الحقبة نفسها، يظهر القبر الذهبي فوق عربة تسير به نحو المثوى الأخير.

يتكرّر هذا المشهد بشكل مختزل في منمنمة من محفوظات مكتبة فرنسا الوطنية، تعود إلى القرن الرابع عشر، وفيها تظهر يد الإسكندر وهي تتدلّى من قبره المغلق. بحسب رواية نظامي الكنجوي، خرجت يد الفاتح من الكفن ممسكة بحفنة من التراب، وذلك لأن الإنسان لا يحمل معه إلى العالم العلوي إلا هذه الحفنة.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها