الخميس 2021/02/11

آخر تحديث: 12:53 (بيروت)

الحقيقة بوصفها عنفاً محضاً

الخميس 2021/02/11
الحقيقة بوصفها عنفاً محضاً
لقمان سليم
increase حجم الخط decrease
في العادة، تدور الأمور هكذا: وضع، حقيقة حياله، تغييره. على أنi، وفي السياق اللبناني، الأمور تواصل الدوران بطريقة مختلفة: وضع، حقيقة حياله، ترسيخه. فما عادت الحقيقة تحدث، صارت، وعلى العكس، توطد، كما لو أن أثرها الوحيد هو أن يطل منها الوضع التي تبرز حياله على سبيل تدويمه، أو على سبيل جعله طبيعياً حتى. لقد تعرضت الحقيقة للقتل، أو للخطف، أو صارت في خبر كان، وبالتالي، التعويل عليها تحول من تعويل على حدث مزلزل الى تعويل على سدى، وهذا، فعلياً، ما يبدل وظيفتها.

فعلياً، بعد مجزرة المرفأ، وقبلها، السطو بالمعنى الحرفي على المودعين، وصولاً الى قتل لقمان سليم، ظهرت الحقيقة كما لو أنها أداة قمع. فالذين ارتكبوا كل هذا يدركون أن حقيقة أفعالهم مكشوفة، وهم، وإن وجدوا أن سترها ليس سهلاً، فهذا ما لا يرمون اليه، على العكس، هم يتركون هذه الحقيقة كما هي، عارية، جلفة، قاسية، ويطلبون من عارفيها، وعلى رأسهم ضحاياها، أن يتكيفوا معها. ثمة هنا تغير أساسي في محل الحقيقة، بحيث لا يوجهها عارفوها نحو المسؤولين عما تكشفه من أجل أن يوقفوا أفعالهم، إنما، وعلى العكس، يوجهها المسؤولون عما تكشفه نحو عارفيها من أجل أن يخبروهم بأفعالهم. بهذا، لا تعود الحقيقة إشارة حمراء، إذا صح التعبير، أمام تلك الأفعال، بل تصير منها، تساوي، وكإخبار بها، تتويجها. على هذا النحو،  تتشقلب وظيفة الحقيقة بالكامل: فالجلاد، وبعد أن يقترف ما يقترفه بحق ضحيته، يخبرها حقيقة ما حصل لها. بالتالي، لا يعود من الممكن لها أن ترد عليه بالحقيقة، التي تطيح نكرانه لاقترافه، إنما هي تتلقى هذه الحقيقة منه، وبهذا، تحملها، تتحملها، تحاول العيش معها.

المشكلة، في هذه الجهة، أو بالأحرى مشكلة من المشكلات أن صلة الضحية بالحقيقة لا يمكن أن تكون لصالحها: فإن أخذتها، فهي تأخذ بسردية القاتل الذي يريد إخافتها بها، وإن نفتها، فهي تنتفي، مثلما تنفي كل ما ارتكبه بحقها. في النتيجة، يوقع الجلاد ضحيته في فخ الحقيقة، وبهذا، يضعها بين خيارين، لا يفضيان سوى الى خضوعها لإرادته.

تنطوي الحقيقة دوماً على شدة ما بالطبع، لكن حين يصير الجلاد هو من يقولها لضحيته، فيعرضها لها، تغدو هذه الحقيقة عنفاً محضاً، كناية عن تحقق هذا العنف: تغدو الحقيقة حقيقة العنف. مشكلة ثانية من مشكلات تغير وظيفة الحقيقة، وهي أن الجلاد، وحين ينقلها للضحية، لا يسقطها فقط في فخها، بل أنه، وأيضاً، ينتجها كأنها ليست ضحية، بل كطرف ثالث يتلقى نبأ عنه. في هذا النبأ، هي ضحية الجلاد، وفي الوقت نفسه، هي ليست كذلك عند وصول هذا النبأ اليها، وفي اثر ذلك، تتفاصل، تنشلّ. كما لو أن ردها على الجلاد معلق لأنها ليست الضحية، وكما لو أن اكتفاءها بالنبأ معلق لأنها هي الضحية فيه.

من هنا، نافلة الإشارة الى أن مشكلة المشكلات تغدو كيفية تعامل الضحية مع الحقيقة كي لا تقع في فخها حين يعطيها إياها الجلاد، حين تتحول الى سلاح بيده ضدها. فماذا يبقى للضحية بعد تجريدها من الكشف عن الحقيقة وتصويبها نحوها؟ قد لا يبقى لها شيء سوى الانتهاء من هذه الحقيقة، أي إقدامها على التخلص منها بالانطلاق من لاشيئها ذاك. بعبارة لقمان سليم، لا يبقى لها سوى "صفر خوف" في تناقل الحقيقة، الذي، وعندها، لا يتطابق مع الأخذ بسردية الجلاد. وهذا، وإن لم يفض الى ردّها اليه من جديد، فعلى الأرجح، يؤدي الى التخفيف من عنفها، كي لا يظل مسلطاً على الضحية. فحين يصير الجلاد يقترف ما يقترفه، قائلاً حقيقة ما يفعله على مسمع الضحية، لا يعود من الممكن لها سوى أن تتناقل الحقيقة هذه لكي تضع حداً لها، ولكي تنجو منه. 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها