الأربعاء 2021/02/10

آخر تحديث: 11:46 (بيروت)

شباط شهر الدم: سعد، عكاوي، مروة، الفطايري، الموسوي، الحريري...سليم

الأربعاء 2021/02/10
increase حجم الخط decrease
يسعُ المرء أن يلاحظ أن شباط/فبراير، أو الشهر الثاني من السنة الشمسية، ربّما يكون الأكثر دموية لناحية حصول عمليات الاغتيال خلال الحرب الأهلية اللبنانية وسنوات ما بعد اتفاق الطائف... ولائحة الاغتيالات طاولت معظم القوى السياسية والحزبية (الشيوعي، الكتائب، حزب الله، المستقبل، الاشتراكي وقوى أخرى) وبأشكال مختلفة. ففي 26 شباط 1975: اغتيل في صيدا رئيس "التنظيم الشعبي الناصري" النائب السابق معروف سعد، وتوفي في 6 آذار. وفي 23 شباط 1980 اغتيلت مايا ابنة بشير الجميل (18 شهراً) بسيارة مفخخة في الأشرفية. وفي 16 شباط 1984: اغتالت اسرائيل الشيخ راغب حرب في جبشيت. في 6 شباط 1986 وُجد المُربّي الشيوعي ميشال واكد مقتولاً على شاطئ السان جورج، وكان اختُطِف في منطقة بئر العبد بتاريخ 4 كانون الأول 1985 بالقرب من مركز تابع لـ"حزب الله". وفي 9 شباط 1986 اغتيل (المجاهد) خليل عكاوي "أبو عربي" في طرابلس. وفي 20 شباط من العام نفسه، اغتيل الشيوعي خليل نعوس في بيروت. وفي 24 شباط أيضاً اغتيل الناصري عصام العرب، والصحافي الشيوعي سهيل الطويلة. وفي 17 شباط 1987 اغتيل المفكر حسين مروة في منزله. وفي 24 شباط من العام نفسه، اغتيل الطبيب لبيب عبد الصمد والفنان نور طوقان. وفي 9 شباط 1989، اغتيل الاشتراكي أنور الفطايري في الشوف. وفي 16 شباط 1992: اغتالت "إسرائيل" الأمين العام السابق لـ"حزب الله" عباس الموسوي، بعدما كان قد شارك في إحياء ذكرى مقتل راغب حرب. وفي 14 شباط 2005، اغتيل الرئيس رفيق الحريري، ووصف الاغتيال بـ"جريمة العصر". في 12 شباط 2008، اغتيل أحد أبرز مسؤولي "حزب الله" عماد مغنية في دمشق. وفي 4 شباط 2021 اغتيل لقمان سليم...

ويمكن للقارئ استنباط بعض الملامح السياسية والحياتية والاجتماعية اللبنانية من خلال عمليات الاغتيال والإعدام، التي طاولت الجميع، وتجعل سؤال موقع "ديوان الذكرة اللبنانية": "مَن يقتل مَن" وجيهاً. فقبل أن تكون بوسطة عين الرمانة في 13 نيسان/ابريل، والتي يعتبرونها مقدمة الحرب الأهلية، كان اغتيال معروف سعد في صيدا، والاغتيال كان شرارة الانهيار والإنزلاق إلى مستنقع الحرب والانقسام، وتجهيل الفاعل، ما تحوّل قاعدة معتمدة منذ ذلك الحين، ومهّد لثقافة الاغتيال وكاتم الصوت والسيارات المفخخة... ومع اغتيال مايا بشير الجميل، كان لبنان قد دخل في أتون الانتقام والثأر والجروح التي لا تندمل، فمايا قتلت في تفجير كان يستهدف والدها بشير الجميل الذي كان قتل طوني فرنجية "ثأراً" لأحد الكتائبيين. في المقابل، يروي الصحافي روبرت فيسك أنه: "عندما قتلت ابنة بشير الجميل في محاولة قتله في بيروت الشرقية بسيارة ملغومة، لم يستطع (الرئيس) سليمان فرنجية أن يخفي شعوره بالرضا. وعندما سألته عن ردّ فعله جلس محدودباً وراء طاولته في قصره الصغير وطأطأ رأسه ونظارتاه النصفيتان على طرف منخريه وقال لي: "آمل أن يشعر بشير الجميل الآن بما شعرت به".

وإذا كانت إسرائيل اغتالت الشيخ راغب حرب والموسوي ومغنية، في إطار الصراع المعلن مع حزب الله، فالنظام السوري اغتال (المجاهد) خليل عكاوي في طرابلس كجزء من الإطباق على المدينة والهيمنة عليها، بعد إشعال فتيل الحرب فيها وضربها على أكثر من صعيد... وكانت المدينة شهدت حرباً عرفاتية أسدية توحيدية، أرهقت مجتمعها.

والاغتيالات التي طاولت الشيوعيين، تحمل أكثر من وجه من وجوه جحيم الهويات والولاءات الظلامية. فمن جهة، هناك عمليات اغتيال منظمة قادتها المليشيات التابعة لسوريا وإيران في لبنان. ومن جهة ثانية، هناك عملية ثأر وحشي طاولت سهيل الطويلة (وغيره) بعدما خُطف من بيته الذي يقع في المبنى نفسه حيث تقع المستشارية الإيرانية (سفارة إيران) عند جسر برج أبي حيدر، إثر اشتباك بين الشيوعيين و"حزب الله"، راح ضحيته أربعة عناصر من الأخير. ووُجد سهيل طويلة بعد 24 ساعة من خطفه، مقتولاً بست رصاصات في رأسه، مشوهاً ومقتلعة عينه، ومرمياً على مكب النورماندي في عين المريسة. وقيل الكثير عن أن عمليات اغتيال الشيوعيين كانت بطلب سوري لإنهاء ما يسمى اليسار و"المقاومة الوطنية".

والسؤال الذي يُطرح دائماً: ماذا عن علاقة الحزب الشيوعي بقتلة قياداته؟ طالما أنه يعرف بعض القتلة بالأسماء! هل بقي أسير محاور وشعارات فضفاضة؟ لم يقتل الهواء الشيوعيين. فحسين مروة، العجوز والضرير، قُتل في سريره والقتلة كان يحيطون ببيته. نور طوقان، الذي كان على كرسي متحرّك بسبب شلله، قُتل أمام شقيقه وأمه في منزله، والقتلة يحيطون ببيته أيضاً... (الحرب على الشيوعييين عموماً، والشيعة منهم تحديداً، سبقتها في بداية الثمانينيات، حرب على البعثيين الشيعة، وأدت إلى اغتيال الصحافي رياض طه، والشاعر موسى شعيب).

وإذا كان الحزب الشيوعي يتعامل مع ذاكرته بشيء من الهذر، متسلحاً بشعارات ميتافيزيقية حول المقاومة، فوليد جنبلاط يستذكر أنور الفطايري في بيانات تبدو أقرب إلى الشِّعر السياسي، وليس فيها سعي إلى الحقيقة، وفي آخر بياناته يقول: "كانت الحرب تنهي فصولها، وكانت المشاريع الكبرى تحاول تحصيل مكاسبها قبل انتهاء الحرب، وهي بالنسبة لهؤلاء اللاعبين أهم من عودة المُهجَّر إلى بيته، وعودة الجبل إلى تاريخه ونموذجه الراقي في الإلفة والمحبة والعيش الواحد، فسقط أنور الفطايري شهيداً لرسالة دموية أخرى تقول لوليد جنبلاط ممنوع عليك إعادة بناء مجتمع كان أساس فكرة التعددية التي قام عليها لبنان. لكن الرسالة التي وصلت على دماء أنور لم توقف العمل".

اعتمد جنبلاط المواربة في استذكاره أنور الفطايري. لم يقل من وجَّه له الرسالة. في العموم، المواربة صارت قدر اللبنانيين المشؤوم، وهذا ما أثبتته الوقائع بعد سنوات على اغتيال رفيق الحريري، الذي كانوا باغتياله كأنهم يقولون وداعاً لبنان، ودخل البلد في مرحلة صعبة من التناتش والتيه. فلم تعد الدولة دولة، ولا المقاومة مقاومة، ولا السياسة سياسة. باتت هذه البقعة الجغرافية على ساحل المتوسط، كأنها تحتاج صياغة جديدة. فمن جهة هناك طوائف (قنابل موقوتة) تتصارع على "جيفة" اسمها مقدرات الدولة. ومن جهة ثانية، هناك "دولة حزب الله" التي باتت أكبر من الدولة. وما بينهما إسرائيل العدوة، والنظام السوري "الشقيق"، ومحاور إقليمية من هنا، ومجالات عربية من هناك. وأثبت لبنان، من بعد انفجار 2005، أنه عاجز عن قيادة نفسه، والعجز مردّه أنه في قلب العاصفة والرياح، فسكّانه أو جزء كبير منهم، يغلّبون الهوية الكبرى الخارجية على الهوية الداخلية. وجزء آخر، بسبب الجموح في الطموح إلى الكرسي، يغلّب الأحلاف مع الغرباء، والنتيجة تثمر مزيداً من التصدّع في بنيان الدولة ومسارها، وتزيد وطأة الانقسامات والنوازع والهويات الضيقة والقبَلية...

ومع اغتيال لقمان سليم صرنا في مرحلة أخطر. بعد انتفاضة 17 تشرين، التي وصلتْ إلى أبواب موصدة، جاءت موجة كورونا وانهارت الليرة، وتُوّجت المأساة اليومية بانفجار مرفأ بيروت الذي يعتبره الوزير المفوّه حمد حسن "قضاءً وقدراً"، بينما وئام وهاب لا يجرؤ على تحديد المسؤول عن الانفجار، "بيقتلوني" قالها أكثر من مرة. في الواقع، يبدو أنهم يريدون لفلفة انفجار بيروتشيما بأي ثمن. في قضية رفيق الحريري، تم تجهيل كامل الفاعلين حتى مِن قِبل المحكمة الدولية الخاصة بلبنان. وفي قضية المرفأ، سيلجأون إلى تجهيل المسؤول. وفي هذا الإطار، ربط كثر، اغتيال لقمان سليم، بحديثه عن المسؤولين عن انفجار المرفأ، فهو كان يرفع شعار "خلينا نحط النقاط على الحروف"، أي أن نقول الأمور بلا مواربة، وهذا المسار كان بانتظاره كاتم الصوت.

بالمختصر، لا أحسب أن الجماعات اللبنانية اتعظت من نهر الدم والاغتيال، وعلى ما يتبين من الوقائع والتواريخ، فهي تكرّر المشهد نفسه، كل مرة، مع مزيد من الوقاحة والحقد والضغينة من خلال هتك حرمة الموت...
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها