الخميس 2021/12/09

آخر تحديث: 11:01 (بيروت)

غسان سلهب... "نهر" الأرض والسماء

الخميس 2021/12/09
غسان سلهب... "نهر" الأرض والسماء
يمنى مروان وعلي سليمان في "النهر" لغسان سلهب
increase حجم الخط decrease
في فيلم "النهر" يلقي غسان سلهب بذرة في غابة تلتف على نفسها وتتناسل تربة وشجرًا ودروبًا ومتاهات تلتحف الضباب. بذرة يمكنها أن تكون فكرة عن حب مستحيل أو حكاية لقاء طلبه رجل واختارت يومه امرأة. هو يعبّر عما لم يفصح عنه قبلًا وهي تصغي ولا تجد طائلًا من استئناف ما فات وانتهى.

التوقف عند فكرة أو الاسترسال في حكاية ليس شغل السينما الخارجة على طاعة السائد في سرد الأفلام وتعليبها أصنافًا وجمهورًا. في سينما مغايرة وعظيمة، تتراجع الحكاية أمام الشعر وتبدو باب الدخول إلى حقيقة السينما، إلى بابها، باب الفن المسمّى جورًا "الفن السابع". في كهنوت السينما يلتهم الشعر الحكاية وتذهب الرواية في مهبه، على نحو التهام الغابة حكاية الرجل والمرأة واجتياح الطائرات الحربية السماء. الأرض والسماء مُفترَستان. السماء بأصوات الغارات الجوية والأرض بزحف الهجران والصور المارة على كلب متربص وذباب يحوم حول جيفة ثعلب نتُنَ وحمار مقيّد يطلق غسان (اسم المخرج وبطله) سبيله إلى الحرية فيما لا سبيل أمامه إلا المضيّ في ملاقاة حبيبته وفقدها في آن واحد، كما هو "النهر" فيلم الأرض التي تلاقي السماء وتفتقدها في آن واحد خلا النظر إليها. وهنا أقول من غصّة - التوق إلى الكمال في فن الصورة - أن غسان سلهب ما كان في حاجة إلى السماء وطائراتها المغيرة ربطًا بوقوع حرب أو إيحاء بلبنان وحروبه المتواصلة. في وسع فيلمه أن يستمر بسحب ضبابه، بموسيقاه، بأصوات غابته ومغاراته والحياة الأخرى البعيدة منه والغارقة في سوادها وأنوارها الحارقة. ليس فيلمًا عن لبنان أو فيه ولا عن/في مكان آخر. حال لبنان حال سائر العالم وحال الشخصيتين الوحيدتين في الفيلم: مكان فائت أحياؤه فائتون لا يمكن عدهم موتى ولا أشباحًا، بل قشورًا من حياة زائدة في نقصانها.

قلّما وجدت فيلمًا عربيًا يحاكي الطبيعة ويحاورها على غرار "النهر". هو فيلم في لا مكان سمته فوات الزمن، فوات الحياة وفوات الحب. إنه فيلم الأرض. كهنوت الغابة-الفيلم يجعله في حدَّيه الأقصى والأقسى فيلم السماء في الأرض، ذاك أن غابته تحمل استعارات الفردوس في البدايات المزعومة للخلق، لكنه الفردوس الموحش مقلوب الأدوار والأطوار. تأتي التفاحة من غسان إلى حبيبته بخلاف المأثور عن تفاحة حواء. والشريط يتتالى كتسلسل الصور المقلوبة في مرآة. واحدٌ من أندر مشاهد الجنس وأروعها عندما يمارسه بطلا الفيلم وتعطي المرأة ظهرها للرجل ولا يتلاقى وجهاهما (الصورة أدناه)، حتى حين بلوغ الفيلم نهايته يقول لها، "أحبك"، ولا ترد. تدير ظهرها وتمشي.

ربما البحث عن حب استحال بددًا أشبه بالبحث عن السماء في أرض يُزيّن للرائي أنها جنّة ما دامت السماء وصفًا من أوصاف الجنة، لكن على صورة الجنة المعاكسة تبدو السماء مقلوبة ورحلتها تسير في اتجاه النزول بدل الصعود، تمامًا كالحب الذي يكد غسان بحثًا عنه. الحب ينزل ولا يصعد، مثلما الجنين ينزل من رحم أمه والحليب يسيل نزولاً من ثديها لإرضاعه. عبر الغابة وشعابها تأخذ رحلة الفيلم مسار الانحدار وصولًا إلى النهر. "جنات تجري من تحتها الأنهار"، تقول الآيات القرآنية في سور البقرة والمائدة والنساء والفتح وآل عمران وسواها. وما النهر هنا إلا "تحت" بيد أن ماءه يظهر للمرة الأولى على الشاشة فوّارًا مثل لهب يعقب سماع انفجار. مصب النهر في نهايات الفيلم أقرب إلى قعر جحيم منه إلى شلال ماء.

أحتفي بغسان سلهب احتفائي بانتصار مخرج في سينما منهزمة، هزمها المقاولون والمنافقون ومهندسو المهرجانات الباذخة وشعائر النجم والسجاد الأحمر وجوائز الوهم والابتسام للكاميرا واصطناع دموع فرح آفل. العيد العذب عيد الروح. فيلم "النهر" سرق روحي. قليلٌ مني أن أهدي روحي إلى مَنْ أحب و مَنْ أحيا في صوره.

(*) نشر هذا المقال أولاً في فايسبوك
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها