الثلاثاء 2021/12/07

آخر تحديث: 18:02 (بيروت)

ثورة في ثانوية رسمية

الثلاثاء 2021/12/07
ثورة في ثانوية رسمية
increase حجم الخط decrease
أشياء كثيرة أثبتتها شابات ثانوية جورج صراف في أبي سمرا – طرابلس، ومعهن رفاقهن الشبان، بما يكبّر القلب من تصدٍّ وفضح للأستاذ المتحرش سامر مولوي. ولعل الأبرز في ما أثبتنه وأثبتوه، أن المفاهيم العملية للحرية والعدالة، وقوة الضحية بحقّها في مجابهة المُعتدِي عبر تحويل عشرات الجرائم المتفرقة إلى قضية رأي عام جامعة،... هذه المفاهيم وآلياتها الديموقراطية، من تجمّع وهتاف ووضع السلطة (مدير المدرسة، وزير التربية،...) أمام مسؤولياتها، النسوية العملانية وجدت لها أخيراً مكاناً راسخاً في المتن كما في الهامش.

بعد طول إقامة في صفوف النخب، الثقافية والاجتماعية، رأينا، بالأمس، خطاب المضطهدين والمضطهدات، من أجل فضح انتهاكات ومحاسبة ورفض وصمة "العيب" وجروح الأجساد والأرواح وتعيير الضحية بالكتمان وطمس الاعتداء بطلب "السَّتر"، محمولاً بحناجر وقبضات مراهقين ومراهقات في مدرسة رسمية، وفي واحدة من أفقر المدن اللبنانية وربما الأفقر اليوم بين جيرانها حول حوض البحر المتوسط. ثورة مصغرة وقوة الحقيقة حين تُشهَر. طرابلس الثورية أطلّت، أمس، بأحد وجوهها البهية لتقول للبنانيين: عروس الثورة لم تمُت، لم تُهزَم، ليس تماماً. والثورة إن فشلت، في القريب العاجل، في التخلّص من المنظومة/العصابة المستولية على حُكمنا ومصائرنا، فقد نجحت في جعل ثقافة التمرّد على مجرمي الأمر الواقع حالة أشمل وأعمق من العناوين السياسية المستهلكة.

ربما لا يكون الأستاذ سامر "مدعوماً"، أو ليس بما يكفي. لكن الحدث في مكان آخر. صنعه شباب في قلب مدرسة من المؤكد أنها تعاني ما تعانيه في ظل الأزمة اللبنانية، تربوياً واقتصادياً. الصوت يعلو، الأصوات كلها تعلو، ولا تضارب في ما بينها. لا تغطي صرخة أزمة عامة على صرخة خاصة.. صارت أيضاً عامة، بجدارة.

ولم نرَ جريمة شرف. ولا انتقام عائلياً من الجاني. لا حلول فردية، عنفية أو "بالتراضي" و"الضبضبة". لا سكاكين ولا إطلاق نار. وأيضاً، لا تكميم لأفواه الضحايا، ولا خوف من فضيحة. تغيّر معنى الفضيحة، وصار الأستاذ المتحرش هو المعني بها. لم يحدث هذا في يوم وليلة. إنه تراكم ثورات وحملات وتجارب، بعضها بالغ الألم والأذى. يحدث أحياناً أن تتحول الحرب الجيليّة، خريطة تحالفات. الطلاب بدأوا، وناصَرهم الأهل، الإعلام المناطقي، والمزاج الطرابلسي العام. دَعمَهم وصدَّقَهم. دعمهنّ وصدّقهنّ وآزرهنّ. ذكور وإناث معاً. معركة واحدة، سِلميّة لكن قاصمة لظهر السيستم. سيستم الدولة اللبنانية، وسيستم الأعراف والتقاليد. المجتمع الذي في غالبيته مُحافِظ، استطاع هذه المرة على الأقل، توظيف الحميّة في غضبة جماعية لقضية ومواجهة، بدلاً من الكتم والكبت أو الثأر الجُرميّ.

مدير المدرسة جُرِف بهتاف "ذكوري ذكوري".. و"ثورة ثورة"! وزارة التربية لم تجد مفراً من الاستجابة السريعة، عبر لجنة التفتيش التربوي التي جمعت إفادات المُعتَدى عليهن، ووقف الأستاذ عن العمل، وإن اكتفت بتسميته "متهماً بأعمال غير لائقة". لا يهم. الإحراج والضغط مرئيان بوضوح. والأنظار تشخص الآن إلى "الهيئة العليا للتأديب" ومصلحة حماية الأحداث التابعة لوزارة العدل. ولم نسمع لوماً للمجني عليهن/هم، ولا تخويناً أو سردية مؤامرة، ولا تشكيكاً في أخلاقهن/م، أو أن لباساً أو تصرفاً ما قد استجرّ تجاوزات المتحرش. الأستاذ سامر، إن لم يظهر مَن يغطّيه حزبياً أو طائفياً، سيصبح مضرب مثل لما يمكن فعله بالوعي والتضامن وحُسن استخدام أدوات التواصل. حين تخلو الحلبة إلا من المجرم والضحية والقانون، لا تعود المنازلة محكومة بما علمنا وذقنا منذ عقود.

خطاب فتيات وفتيان الثانوية الرسمية، يحتمل تسميات كثيرة: حقوقي، حرياتي، مطلبي. خطاب مواطَنة، مساواة، ثقة في الحقّ وفَهم لمعناه من الجذور. امتلاك لأدوات العصر وأسلحته الناعمة الفتّاكة. فاعلية "لا". على الأرض، في الميدان. النسوية التطبيقية فرع مبهج من فروع التوصيف. لكن الأمر يستحق احتفاء المظلة الأكبر. هذه "لا" سياسية بامتياز. السياسة كما يجب أن تكون. والأمل ألا تنتهي القضية على طريقة السياسة اللبنانية.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها