السبت 2021/12/04

آخر تحديث: 12:02 (بيروت)

جميل ملاعب في حب بيروت

السبت 2021/12/04
increase حجم الخط decrease
لم يخلف جميل ملاعب بالموعد لدى "غاليري جانين ربيز". اعتدنا أن نراه كل عام، شئنا القول أن نرى أعماله المعلّقة على جدران صالة العرض، وننتظر في كل مرّة لمعرفة ما سيفعله، وهو جالس قرب نافذة محترفه في بلدة بيصور، المطلّة على مشهد طبيعي، بعيداً من فوضى المدينة وضجيجها، ما يدفعنا إلى الحسد والغيرة مما يوفّره له المكان. هذه الغيرة بعيدة من الشر وتمنّي السوء، بل هي مبنية على شعور بالتقدير لما ينتجه، وما يطمح إليه من سير إلى الأمام، على خلاف بلد يلّفه الجمود والتقهقر، بعدما غرق في بحار الأزمات واليأس.


وكما يبدو، فإن هذ اليأس، الذي يطاولنا جميعاً بحسب درجات متفاوتة، ويشتدّ فعله في الوقت الحاضر، يستعيض عنه ملاعب، ويتغلّب عليه ربّما، في انصرافه إلى العمل والبحث والتجارب. عمل جاد لا يقف عند محطة ويراوح بين جدرانها، بل يتنقّل بين مجموعة أفكار ورؤى يجمع الفنّان مكوّناتها خلال رحلته شبه اليومية بين بيصور الجبلية والعاصمة الساحلية. هذا، في حين أن ما يفعله ملاعب لا يتعلّق مباشرة بما يراه، بل هو نتيجة تراكمية لمؤثرات من كل نوع، بعضها يتأتّى من المعيش، ويوغل بعضها الآخر في تراث محلّي، وترفده، أيضاً، صورٌ ترسّخت في الذاكرة خلال مسيرة فنيّة مستمرّة منذ عقود عدة.

خلال هذه المسيرة لم يركن الفنّان إلى إتجاه واحد أوحد. إعتاد، في السنوات الأخيرة، على تضمين معارضه أعمالاً تنطق بأكثر من أسلوب في التعاطي مع الهمّ التشكيلي، وذلك على خلاف العرف المتّبع في المعارض، أو على الأقل في معظمها، حيث تكون الأعمال متقاربة في النهج، وأحياناً في الحجم، حد التطابق. فجميل ملاعب يتنقّل، من دون صعوبة أو كلف، ما بين التمثيل واللاتمثيل، علماً أن النوع الأول أقرب إلى قلبه، كما قال لنا مراراً، وكما تؤكّده لنا عودته المستمرة إلى الواقع، مع العلم أن هذا الواقع متشعّب ومعقّد، ويبتعد، لدى ملاعب، عن مجرّد نقل لصور من هنا وهناك.

من خلال معاينة الأعمال المعروضة التي نحن في صددها، يمكن أن نلحظ اختلافاً بين قماشة أشبه بمنمنمة، وكأنها عبارة عن مخطوطة مزخرفة، وجزع خشبي يشبه عموداً طوطمياً. القماشات التي تحمل عناوين مثل: "أنا أحب بيروت"، "طقوس لبنانية" أو "لبنان أرض مملكة السموات"، تروي قصصاً كثيرة، متشابكة ومتّصلة في شكل مكثف، ضمن نمط "ميكروسكوبي". هذه الأعمال تزخر بتفاصيل قد يصعب على العين تتبعها نظراً لغزارتها، لكن الكل يصبح متماسكاً في هذا الجو "الهيروغليفي" حيناً، وربما "السومري" أحياناً أخرى، وهي التي، في مظهرها العام، تقارب المخطوطات القديمة من حيث الشكل، لكن المضمون يستبدل الشرائع والأساطير، المحكية بكلمات مكتوبة، بالرسوم التصويرية الغرافيكية المنحى. ومن الواضح أن هذه القماشات تتمتع بمفعول بصري خاص، يُذكّر بأعمال "جماعة تقصّي الفن البصري" الباريسية، والأوروبية في شكل عام (من بين أعضائها، أو الملتحقين بأساليبها، جيفري ستيل، لودفيغ ويلدينغ، سوتو وآخرين).

لكن الفرق قائم في أن تلك الجماعة استخدمت وحدات هندسية كالمربعات والمثلّثات والدوائر من أجل الوصول إلى ظواهر حركية ثلاثية الأبعاد، تنتج من إنحراف الأشعة الضوئية بالنسبة إلى الخط المستقيم المتوجّه إلى العين، في حين أن أعمال ملاعب لم تأتِ تجريدية أو شكلانية، بل تضمّنت بيوتاً وأشكالاً إنسانية وحيوانية، وقد تحوي سِيرة أو سيراً كاملة، وبعض الأحجية القابل بعضها للتفكيك، إضافة إلى بعضها الآخر العصي على هذه المحاولة. على أن البعد البصري حاضر هنا بقوّة، كما في أعمال الجماعة المذكورة، إنما من وجهة أسلوبية ذاتية، ويختلف هذا المفعول بحسب زاوية النظر، كما من خلال مدى المسافة القائمة ما بين العمل والمتلقّي.

في وسط صالة العرض نرى أعمالاً مجسّمة ذات أحجام مستديرة أو زوايا حادة: أعمدة خشبيّة متفاوتة الشكل والإرتفاع، كنا أطلقنا عليها صفة طوطمية لكونها تذكّرنا بأنصاب قبليّة تعود لحضارات ماضية، وربما لا تزال رائجة لدى شعوب لم تمتد إليها الحضارة كي تعصرنها وتفسدها في آن واحد. يقابل  تلك الجذوع، أيضاً، قماشات طولانية عمودية معلّقة أمام الجدار، وعلى تلك القطع الخشبية منها أو القماشية، ترتسم قامات بشرية، تتراوح بين ذكور وإناث، وبين العري أو عدمه فيما يختص بالنساء، إضافة إلى حيوانات، والكل في أوضاع ومواقف شتّى. أوضاع ومواقف تُشتمّ منها روائح حياة تسير على هدى االحاجات اليومية، وجلسات تراثية، وأحاديث وسواها.   


المعرض الذي اتخذ عنوان: "لبنان – جمال وثقافة"، يبدو وكأنه يطمح إلى إعادة الإعتبار لوطن آخر يحلم به ملاعب، مختلف ومتناقض مع الوجه الذي آل إليه حالياً. هي عودة ذهنية إلى الجذور، الثقافية والجمالية منها معاً، من خلال الفعل التشكيلي الذي لا يختلف عن الأفعال الأخرى إلاّ من خلال إستبدال العبارة المكتوبة بصور محسوسة، أو ببعض الخيال، وربما بالكثير منه.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها