الجمعة 2021/12/31

آخر تحديث: 09:46 (بيروت)

"بلد الأشياء الأخيرة"..كأن بول أوستر يكتب عن خراب بيروت

الجمعة 2021/12/31
"بلد الأشياء الأخيرة"..كأن بول أوستر يكتب عن خراب بيروت
بول أوستر
increase حجم الخط decrease
 
«في بلد الأشياء الأخيرة» لبول أوستر هي رواية ديستوبية عن بلد تعرض  لكارثة رهيبة. لا يذكر الكاتب اسم البلد وليست هناك إشارات تدلنا إليه. ولكن طوال الوقت الذي أخذني في قراءته  كان يلفني شعور بأنني أعرف المكان. بدا لي وكأنني مررت بالشوارع التي يصفها الروائي ورأيت الزوايا التي يرصدها. حتى الشخصيات بدت لي وكأنني التقيت بها أو صادفتها في الطريق.

المدينة غارقة في الظلام، لا يأتيها نور الكهرباء إلا لماماً وفي فترات متقطعة ولأوقات قصيرة. الأحياء مفصولة بعضها عن بعض، أشبه بغيتوات معزولة مقطعة الأوصال. الناس تائهون، خائفون، جائعون. لا سلع في المحلات إلا فيما ندر وإن وجدت فبأسعار عالية تفوق قدرة الناس على شراءها. الخدمات معطلة. الحكومة لا تقوم بأي شيء لمساعدة الناس. الوظيفة الوحيدة التي تسهر على أدائها هي المراقبة والتأكد من رضوخ الجميع للأمر الواقع، وأن لا أحد يتذمر. ما يهمها ليس حال الناس وسبل عيشهم وأمنهم وأمانهم بل ديمومة النظام وبقاء أجهزته الأمنية وإدارة السجون.

مشرّدون جائعون ينتشرون في كل مكان، لا يتكلمون سوى عن حلم بسيط يتمثل في الطعام الذي يشتاقون إليه. يتكلمون عنه بشغف ويصفونه بأدق التفاصيل. يثرثرون عن شكله وملمسه ورائحته ومذاقه.

حياة عقيمة، بليدة، تافهة، خالية من أي معنى. لا أمل في الأفق في أن تتحسن الأحوال. يتدبر الناس أمور عيشهم كيفما اتفق. الجريمة تنتشر والسرقات باتت سلوكاً يومياً. يلجأ الكثير من الناس إلى بيع مدخراتهم وكل ما له قيمة في البيت. التحف والحلي والكتب والأرائك والكراسي والملاعق وحتى الملابس. الفقراء ينحدرون إلى الفقر أكثر وأكثر. المرضى يموتون على أبواب المستشفيات لأن لا أدوية ولا أطباء ولا خدمات وإن وجدت فليس لديهم، أي المرضى، ما يكفي من المال لتسديد نفقات علاجهم.

كل شيء يحتضر. الموت يطبق الخناق. تكثر الجثث المرمية في الشوارع، مثل الفطر. الجثث عارية لأن هناك من ينقض عليها ويجردها من ملابسها وأحذيتها والأسنان الذهبية والفضية في أفواهها. ترسل الحكومات عربات نقل لالتقاط الجثث وإرسالها إلى مراكز حرق وإعادة تدوير. لا يستطيع أهل الموتى دفن جثث موتاهم لأن الحكومة تريد استخدامها لتوليد الطاقة.

ندخل إلى هذه المدينة المخيفة مع آنا بلوم التي جاءت تبحث عن شقيقها، الصحافي الذي جاء إلى المدينة للقيام بتحقيق ثم اختفى أثره. هي تكتب عن مشاهداتها في هذا البلد الذي يحتضر. إنها تشهد زوال البلد واختفاء معالمه بالتدريج. إنه، بمعنى ما، بلد الأشياء الأخيرة، فقريباً لن يبقى هناك أي شيء. كتبت تقول: "هذه هي الأشياء الأخيرة. تختفي ولا تعود البتة. أستطيع أن أخبرك عن تلك التي كنت قد شاهدتها ثم سرعان ما اختفت. ولكن ليس لدي ما يكفي من الوقت. الأمور تجري بسرعة هائلة، وليس في وسعي مجاراتها". لا عمل. لا وظائف. المهنة الأكثر انتشاراً هي جمع النفايات وفرزها لصالح مكاتب مختصة. اليأس يدفع بالناس إلى الانتحار ولهذا انتشرت مراكز يمكن لمن يشاء التسجيل لديها من أجل الانتحار بطريقة مناسبة. الأسعار تختلف تبعاً لطريقة الانتحار. بين الحين والآخر تحدث انفجارات ويبدو كما لو أن عمارات تسقط وأرصفة تنخسف. ولكن لا يمكن رؤية ذلك. رغم أن أصواتاً كهذه تصدر بشكل كثيف فإن مصدرها يبقى خفياً. «الحياة التي عهدناها انتهت، ولكن لا يستطيع أحد أن يخمن ما الذي سيحل محلها».

لوحة قاتمة هي تلك التي يرسمها بول أوستر لهذه المدينة المنكوبة، التي أصاب الانهيار كل شيء فيها. تهدمت المنازل وعم الظلام بحث بات الناس يسيرون فيها كالعميان.

قلت في بدية المقال إنني أشعر وكأنني أعرف المدينة التي يتحدث عنها اوستر. هذا صحيح. بقيت أردد لنفسي مع كل مشهد في الرواية: إنها بيروت. كنت أقرأ الرواية وأمام عيني تنهض صور الانفجار الرهيب الذي أصاب مرفأ بيروت. تناثرت المباني والمراكب والعربات وتشظت الجدران واقتلعت النوافذ والأبواب. صور قتلى وجرحى وجموع مرعوبة تركض في كل اتجاه. صور أكوام النفايات في الشوارع. صور طوابير الناس أمام محطات البنزين. صور التدافع والتناهش في المحلات على أتفه السلع. صور الحشود التي انتفضت وصرخت وهتفت ونادت وسعت في الحرية ولكنها عجزت عن الظفر بشيء فيئست وقنطت وتاهت وتشردت وأخذت تطرق الأبواب كي تخرج وتهرب من البلد إلى أي مكان.

ولكن هل هذا هو حال بيروت وحدها؟ ماذا عن دمشق وحلب وبغداد والموصل والنجف وصنعاء ومأرب؟ باختصار تلك البلاد التي أصابتها لعنة حكام مأربهم الأول والأخير هو «ديمومة النظام وبقاء أجهزته الأمنية وإدارة السجون»؟      
في هذه البلاد تتحول حياة الناس إلى عبث جحيمي. ما يشبه المأتم الأبدي، حيث العتمة والكآبة والقنوط وفقدان الأمل. حيث الجوع والإنهاك. حيث الناس يجوبون الشوارع تائهين بحثاً عن سبيل ينقذهم من السجن الخانق. يسعى الناس، بالجملة، في تدبر أي وسيلة للهرب عبر البحار إما للوصول إلى مكان قابل للعيش البشري (حد أدنى من الكرامة التي تليق بالإنسان، أي إنسان) أو الموت غرقاً في البحار. الأحوال في هذه البلاد حولت الناس إلى كائنات ماقبل آدمية تدفعها غريزة البقاء إلى التصارع من أجل البقاء، لا أكثر. هذه بلاد مجروحة، مشوهة، منهكة، ممزقة، مفتتة، مخنوقة، تلفظ أنفاسها.

طبعاً بول أوستر لم يكتب عن بيروت أو دمشق أو بغداد وغيرها من مدن الخراب العربي. ما  فعله هو أنه تخيل حدوث هذا المصير في مدينة ما لسبب ما. هذا المشهد الأبوكاليبسي هو أقصى ما وصلت إليه مخيلته الجامحة. ويبدو أنه كان قاصراً في تخيله. فالواقع في البلدان التي ذكرتها أشد هولاً مما كتبه. 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها