الخميس 2021/12/30

آخر تحديث: 09:49 (بيروت)

"يد الله" لباولو سورينتينو.. أناقة فارغة لا تقول شيئاً

الخميس 2021/12/30
increase حجم الخط decrease
لنابولي ألف لونٍ، مثلما يغنّي بينو دانييلي في التترات الختامية لـ"يد الله"(*)، الفيلم الجديد للمخرج الإيطالي باولو سورينتينو، المعروض حالياً في "نتفليكس". نعم، هذا صحيح، نابولي لديها ألف لون وألف ضوضاء وألف رائحة، لكن سورينتينو لا يظهرها لنا، فذلك مما هو ليس أهلاً له. وهنا يقولها بوضوح، وباستسلام تقريباً، ابن هذه المدينة التي لا يستطيع فهمها وحبّها. الشاهد الحاسم بهذا المعنى هو ذلك المشهد الذي يلتقي فيه الشاب فابيتو - بطل الفيلم، والأنا السينمائية للمخرج – بالمخرج أنطونيو كابوانو، الذي ظهر معه سورينتينو لأول مرة في العام 1998، حين شاركه كتابة فيلمه "غبار نابولي". الاختيار في حدّ ذاته يدعو للمفارقة الساخرة، فمن المستحيل تخيُّل مراجع/ مؤلفين أبعد صلة منه، نظراً لأن كابوانو يجسّد  "الجماهير" أو الـ popolino بتعبير الإيطاليين، وبالتالي الجوهر النابوليتاني، والذي بالإمكان تمييزه أيضاً من وجهه، بينما لا يمكن لسورينتينو أن يجسّد - ولا يريد أن يجسّد - أي شيء آخر غير نفسه. يقول كابوانو( يلعب دوره هنا بشكل رائع الممثل سيرو كابانو) للصبي الساذج أنه بحاجة للصراع، وأن السينما لا توجد بدون صراع وقصص، ويصرخ مثل مجنون، داعياً فابيتو إلى الإتيان بقصّة، إذا كان يملك واحدة. وهذا الأخير لديه واحدة بالفعل، وهي قصة مأساوية صاعقة، لكن المشكلة أنه لا يعرف ما إذا كان بإمكانه سردها أو مدى رغبته في روايتها.

الفيلم كلّه يدور في مدار هذه المعضلة، حول سؤال سرد السيرة الذاتية للمخرج، بما أن سورينتينو يكشف عن نفسه للمرة الأولى من خلال تقديم والديه، اللذين ماتا بشكل مأساوي، في فيلمٍ أراد به العودة، على غرار فيلليني، إلى طفولته في نابولي ومأساة الأسرة التي شكّلته، دون أن ينغمس في حزنه. وهو يفعل ذلك بإخلاصٍ كبير، ولكن بإخفاء وتقنُّع أكثر من اللازم، وبكثير من الحيل، وبالكثير من الزخرفة الغروتسكية. ولذلك، فعلى الرغم من إخلاصه، إلا أنه ليس حقيقياً ولا جديراً بالتصديق، ولا ينجح أبداً في الاستيلاء على الحواس، أو إحداث التأثير المفترض، حتى لو نجح في الإضحاك أحياناً. المفارقة هائلة: حتى حين يسرد قصته الشخصية، ينجح سورينتينو في إبقائنا بعيدين. وهذا ليس إلا فشلاً كبيراً.

يمكن التفكير في "ماركس يمكن أن ينتظر"، فيلم المعلّم الإيطالي ماركو بيلوكيو الأخير، وهو أيضاً عمل بيوغرافي بامتياز، التفكير في الإنسانية التي تتألق في كل لحظة، حتى في اللقطات التي ربما تكون عشوائية ولم تصوَّر بشكل جيد. بالعودة إلى "يد الله"، لم تحضر الإنسانية أبداً وكل لقطة مُبالغ في التفكير بها، بدءاً من الأولى، العلوية الجميلة المأخوذة بطائرة بدون طيار، ولكنها أيضاً تهرب بطريقة ما من قلب المشكلة - نابولي - وتلجأ إلى البحر. هذا مثال بسيط، إنما كاشف، على نهج ومُنجز سورينتينو في عمومه: صورة جميلة وأنيقة ولا تقول شيئاً. تماماً مثل انعكاس مقلوب لـ "توني مونتانا" آل باتشينو في فيلمه الشهير "سكارفيس"، يتبيّن سورينتينو مزيّفاً، حتى حين يقول الحقيقة، إنها طريقته في صناعة السينما وهو يعلم أنه لا يستطيع الفكاك منها.

وهكذا الأمر مع محاولاته لاستنساخ حيوية فيلليني، لكن في النهاية دون معرفة كيفية القيام بالأمر على نحوٍ صحيح: أولاً لأنه يكره الشخصيات الثانوية التي يضعها على خشبة مسرحه السينمائي، بينما أحبّهم فيلليني؛ ثانياً، لأن فيلليني جعل ممثلي شخصياته يتحركون بسرعة مذهلة وبإيقاع رائع (يملأ الصورة والموسيقى التصويرية بمكونات ونِكات وحركات متكررة)، بينما على العكس من ذلك، يميل سورينتينو إلى الاستاتيكية واستنزاف كل حيلة؛ ثالثاً، لأن فيلليني أضحك المتفرجين وليس الممثلين، بينما سورينتينو - بشكل لا يصدّق - يُضحك الممثلين ليفهمنا أن هذه مزحة وأنها مضحكة، بينما منذ بدأ العالم - وحتى بيرانديللو قال هذا - في السينما كما في المسرح، نضحك على شخص ما من دون اضطرار لطلب المساعدة من أحد لإضحاكنا. لكن في الحقيقة - استثناء نادر في الفيلم - شخصية كابوانو مضحكة جداً عندما يصرخ، جاداً ومنزعجاً، أثناء عرضٍ مسرحي، ويهين الممثلة على الخشبة.

وبالتالي، تتضخّم في "يد الله" جميع العيوب الكلاسيكية لسينما سورينتينو، من استطرادات وغمزات إلى المتفرج وإرضاء للذات، لأنه مثقل بالبُعد الذاتي والتأمل الاستبطاني والرغبة بحشر وقول كل شيء خلال ساعتين، وتحديداً لأن المؤلف يكشف عن نفسه دون أن يعرف حقاً كيف يفعل ذلك، وبالتالي يظل مُحرَجاً من هذا التعرّي الذاتي، على عكس ما فعلته لويزا رانييري (خالة فابيتو في الفيلم) في القارب، بسهولة وراحة تامّتين. الممثلون، في الواقع، بذلوا قصارى جهدهم وكلّهم جيّدون، إنما الملابس التي يرتدونها هي المعيبة، بسبب عوزها للتناسق والتناغم، أما شخصياتهم فهي غير موجودة أساساً، باستثناء لويزا رانييري، التي تلعب دور الخالة المخبولة والفاتنة، وشخصية كابوانو. حتى الهالة المارادونية (ومارادونا عنصر تأسيسي وتسويقي مهم لهذا الفيلم) لا تعمل، إذ تُقدَّم بطريقة مجانية ومبتذلة: ترقُّب وصول مارادونا إلى نابولي للانضمام إلى نادي الجنوب، يؤسس له في بداية الفيلم، ثم سرعان ما يتم التخلي عنه، أما عنوان الفيلم فيأتي تفسيره محشواً داخل مشهد تلفزيوني أخرق، مصحوباً برطانة فارغة يلفظها شيوعي مسكين.

"يد الله" فيلم مأزوم، شخصياً وعاطفياً وتأليفياً. وفي معضلته هذه، يذكّر قليلاً بلحظة الأزمة التي مرت على زميله الياباني تاكاشي كيتانو عندما أخرج فيلمه " Takeshis'" في العام 2005، مفتتحاً به ثلاثية فيلمية سوريالية تحدّث فيها عن الصعوبة التي يواجهها في الاستمرار في صناعة الأفلام، وقد فعل ذلك أثناء الاستمرار في صناعة الأفلام! مفارقة يمكن العثور عليها أيضاً في هذا الفيلم لسورينتينو، لكننا نعتقد أن صاحب "الجمال العظيم" سيعود قريباً ليجد ضالته في أمور أخرى - أي شيء عدا سيرته الذاتية - واضعاً هذا الانغماس النرجسي الذي لا يخصّ سواه في مكانه الملائم، كجملة اعتراضية أو مناجاة طويلة فارغة بين قوسين.


(*) بالإضافة إلى فوزه بجائزة لجنة التحكيم الكبرى في "مهرجان البندقية السينمائي" الأخير، يمثّل الفيلم إيطاليا في سباق جوائز الأوسكار في الدورة الـ94 المقبلة، حيث اختير ضمن قائمة قصيرة تضم 15 عملاً للمنافسة على جائزة أفضل فيلم دولي.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها