الأربعاء 2021/12/29

آخر تحديث: 13:01 (بيروت)

هل نحن وحيدون في هذا الكون؟ مفارقة فيرمي العويصة

الأربعاء 2021/12/29
هل نحن وحيدون في هذا الكون؟ مفارقة فيرمي العويصة
Fermi Paradox
increase حجم الخط decrease
من ميّزات الإنسان الفريدة، حسب الأنثروبولوجيين، بالمقارنة مع بقية الكائنات الحيّة، أن الإنسان معتاد على النوم على ظهره. غالباً، أجبرتْه هذه الوضعية على التحديق في السماء، فرأى قبّة داكنة مشعّة مرصعّة بالنجوم والمجرّات والنيازك والغموض. وعندما بدأ الوعي الإنساني يتوسّع ويتشابك مع العالم حوله، كان مُحتّماً أن يصل إلى اللحظة التي يتساءل فيها عمّا يختبئ خلف تلك القبّة السماوية: هل هناك حياة ذكية أخرى في زاوية ما من هذا الكون؟ هل الحياة على الأرض حدث فريد أوحد لم ولن يتكرّر؟

لسنوات طويلة تراكمتْ مشاهدات وشهادات أرضية لأشخاص في هذه البقعة أو تلك، عن أجسام طائرة مجهولة، غذّت الفضول البشري التوّاق إلى إيجاد الدليل القاطع على أن هناك حضارة ذكية في مكان ما. هذه المشاهدات تحوّلتْ مع الزمن إلى شبه إيمان لدى جمهور عريض عن معلومات سرّية تملكها الحكومات عن الموضوع. لكن في حزيران 2021، أُفرِج أخيراً عن تقرير طويل مُرتقب من أجهزة المخابرات الأميركية لتوضيح حقيقة وجود أجسام طائرة مجهولة من عدمها. التقرير الذي راجع مئات المشاهدات والأرصاد لصحون طائرة قد تنتمي لحضارات كونية مجهولة خيّبَ الآمال؛ لم يكن فيه أيّ دليل دامغ على وجود حياة ذكية أخرى خارج الأرض.

لكن التقرير لم يقتل السؤال الذي بقي مُعلّقاً في الهواء من دون إجابة نهائية. فعدم وجود دليل لا ينفي وجود ذكاء في إحدى بقاع الكون. كل ما هنالك، أن قدراتنا ما زالت محدودة عندما نتكلّم عن كون يصل قُطرُه إلى 93 مليار سنة ضوئية. مع ذلك، أليس مستغرباً أنه مع كل التطوّر الذي حصل في وسائل اتصالنا وقدرات رصدنا الكونية، التي تمكّننا من رؤية مجرة على بُعد مليارات السنين الضوئية، لم نلتقط حتى الآن أيّة إشارة، ولو ضعيفة، أو علامة أو رسالة أو اتصالاً من حضارة ذكية أخرى! هذه المعضلة أو المفارقة صارت تُعرف بـ"مفارقة فيرمي" الشهيرة (Fermi Paradox).

إنريكو فيرمي، عالم فيزيائي إيطالي- أميركي (1910-1954) حائز على جائزة نوبل في الفيزياء العام 1938. في نقاش مع زملاء له، طرح فيرمي السؤال الذي ارتبط باسمه كتناقض عصيّ على التفسير: في هذا الكون الشاسع أين هم الآخرون؟ ولفهم سؤال فيرمي لا بدّ من تفكيك المنطق الذي يؤدي بالضرورة إلى سؤال كهذا.



المجموعة الشمسية التي تقع فيها الأرض هي بيتنا الصغير. في هذا البيت الصغير، الشمس هي نجمنا، تدور حولها ثمانية كواكب (الأرض إحداها). بيتنا الأكبر هو مجرّة "درب التبانة" التي نُقيم في جزء صغير من أحد أذرعها الحلزونية. درب التبانة مجرّة عادية حجماً (قطرها 100 ألف سنة ضوئية فقط)، تحوي على الأقل 100 مليار نجم كالشمس. كل نجم فيها يدور حوله عدد من الكواكب. نتحدّث هنا عن مجرّة واحدة فقط متوسطة الحجم. كم عدد المجرّات في الكون؟ آخر التقديرات أن هناك ما لا يقل عن 2 تريليون مجرّة كونية. الآن، كل ما علينا فعله، هو ضرب تلك الأرقام الفلكية ببعضها: 2 تريليون مجرّة، في كل منها 100 مليار نجم، وحول كل نجم كوكب أو أكثر. في الكون إذاً عدد خيالي من النجوم التي تشبه الشمس. عدد الكواكب لا بدّ أكثر من ذلك. هنا يتساءل فيرمي، فقط بالاعتماد على علم الاحتمالات، هل من المعقول أنه لا توجد، ضمن تلك المليارات والمليارات من الكواكب، التي يشبه كثير منها الأرض تركيباً وبيئة ومنشأً، حياةٌ ذكية كتلك التي تطوّرت على الأرض؟ لمَ لا؟ مع العدد الهائل جداً من النجوم والكواكب، يصبح الاحتمال كبيراً جداً، بل شبه مؤكد. كان السؤال مغرياً إلى درجة أن العالِم الأميركي في علوم الفيزياء والفلك، فرانك دريك، استخرجَ معادلة رياضية احتمالية لتقدير عدد الحضارات الذكية الممكن وجودها في مجرّة "درب التبّانة" فقط. اعتمد دريك في كتابة معادلته، على تقدير عدد النجوم في "درب التبانة"، وعدد الكواكب، وعدد الكواكب التي تتوافر فيها ظروف مناسبة للحياة، واحتمال تطوّر حياة ذكية، الخ… الرقم النهائي، أن هناك، في مجرّة "درب التبّانة" فقط، احتمال وجود ما بين ألف إلى 100 ألف حضارة ذكية. حسناً، نستطيع أن نفهم تساؤل فيرمي أكثر الآن؟ أين هي كل تلك الحضارات؟ لماذا لم نلتقِ بواحدة حتى الآن؟

مفارقة فيرمي أكثر إثارة في الحقيقة إذا تعمّق المرء في منطقها وتفسيراتها اللاحقة، التي تمضي كالتالي: في مجرّة "درب التبانة" فقط، إذا استطاعت حضارة ذكية استعمار كوكب قريب منها (كما يمكن أن نستعمر قريباً كوكب المريخ مثلاً)، وبقيت فيه لأجيال، ثم انطلقت الأجيال الجديدة في المستعمرة لاستعمار كوكب آخر قريب ثم آخر ثم آخر، بافتراض أن السرعة التي وصلتْ إليها تلك الحضارة الذكية هي 20% من سرعة الضوء، وهي سرعة ليس من الصعب مع تسارع التقدم التقني الوصول إليها؛ إذا حصل هذا الغزو المتتالي لكواكب المجرّة، فأية حضارة ذكية ستستطيع استعمار مجرّة "درب التبانة" بأكملها في غضون خمسة ملايين سنة. قد يبدو هذا وقتاً طويلاً، لكن خمسة ملايين في الزمن الكوني وقت قصير جداً. عمر الكون حوالي 14 مليار سنة، وعمر الأرض 4,5 مليارات سنة. الحياة بدأت على الأرض حوالي منذ حوالي 3,8 مليارات سنة. أي أن خمسة ملايين سنة هي غمضة عين كونية لا أكثر. لماذا إذاً، يتساءل فيرمي ومن أتوا بعده وقبله، ونتساءل نحن، إذا كانت كل تلك الأرقام تشير إلى شبه حتمية وجود حضارة ذكية أخرى ولقائنا بها، لماذا لم يحدث هذا اللقاء؟ حتى الآن، لا إجابات نهائية على هذه التساؤلات. لكن تكهّنات وفرضيات كثيرة ظهرت، مُحاولةً حلّ مفارقة فيرمي.

يُلخّص عالم الفيزياء الفلكية، نيل ديغراس تايسون، بعض الفرضيات التي تحاول تفسير الصمت المريب الذي يحيط بأرضنا حتى الآن. تفسير أوّل يكمن ربّما في الظروف المعقّدة جداً التي يجب أن تتوافر لنشوء الحياة واحتضانها. فنشوء الحياة يلزمه عدد هائل جداً من الظروف الكونية والبيئية والتطورية المناسبة لتشكّل أول خليّة وتكاثرها وتطوّرها. الكون الذي نشأ منذ حوالى 14 مليار سنة، لم يصبح مضيافاً إلّا لاحقاً، بعدما هدأت تفاعلاته وأغبرته القاتلة وانخفضت درجة حرارته إلى درجة معقولة. الباحث الأميركي جارد دايموند، يوضّح أكثر هذا التفسير: لا يكفي أن تنشأ حياة في مكان ما، بل يجب أن تكتسب أيضاً الذكاء والوعي للوصول إلى تقنية فضائية متقدمة (فالحيتان والقردة تمتلك درجة معينة من الذكاء)، وأن تتطوّر بحيث تكون لديها خواص فيزيائية (أطراف) تُمكّنها من تحويل التقنية إلى صواريخ ومركبات فضائية. أي أن ظروفاً كثيرة شبه نادرة يجب أن تنتظم كي نصل إلى حضارة فضائية. انتظام يصل إلى درجة الاستحالة. حسب هذا التفسير، نحن فعلاً استثناء.

تفسير ثان، أن الذكاء الشديد يحمل في طبيعته بذور فنائه، وأن أيّة حياة ذكية، متى وصلتْ إلى درجة عالية من التطوّر، يؤدّي ذكاؤها نفسه إلى القضاء عليها. هذه الفرضية تكسب مؤخرّاً الكثير من الأتباع، بالنظر إلى ما يفعله الإنسان والتقنية البشرية المتطورة من تخريب للأرض (احتباس حراري) وذكاء اصطناعي غير مضمون النتائج وأسلحة نووية، الخ… ضمن هذه الفرضية، من المحتمل جداً أن حضارات ذكية نشأت في أزمان سحيقة غابرة، ثم اندثرتْ قبل أن يحصل أي اتصال معها.

تفسير آخر، بحسب نيل ديغراس تايسون دائماً، أن وسائل اتصالنا ما زالت بدائية جداً، لا تمكّننا من التقاط إشارت متطوّرة جداً. لنفترض مثلاً أننا رجعنا ألفين سنة إلى الوراء، إلى عصر الحضارة الرومانية، وحاولت حضارة ذكية في ذاك الوقت ارسال موجات راديو للاتصال بنا. على الرغم من أن الحضارة الرومانية هي بالتأكيد أحد أشكال الحياة الذكية، لن تستطيع حضارة الرومان التقاط رسائل الراديو من حضارة متقدّمة عليها. ربّما هذا ما يحصل لنا الآن، وثمة من يحاول الاتصال بنا، من دون أن تكون لدينا التقنية اللازمة لفهم ما يصلنا.

تفسير أخير يكمن في ذلك المحيط الهائل من الشساعة الكونية التي تتجاوز حتى قدرة العقل البشري على التخيّل. ماذا لو كانت هناك حضارة ذكية في ركن قصيّ موغل في البُعد من أرضنا. مثلاً، حضارة على بعد خمسة مليارات سنة ضوئية (حسب قوانين الفيزياء الأساسية، لا يمكن للمادة تجاوز سرعة الضوء). كيف ستتصل بنا هذه الحضارة؟ كيف سنعرف بوجودها ومتى؟ يبدو الأمر صعباً نوعاً ما.

مفارقة فيرمي ستبقى حيّة. هل نحن وحدنا؟ من الصعب تخيّل ذلك مع هذا العدد الهائل من الأماكن التي يمكن أن تنشأ فيها حياة أخرى. لكن حتى الآن، لا شيء يدلّ على أن أحداً يشاركنا هذا الكون. ربّما حياتُنا حدثٌ استثنائي كوني فريد من الصعب تكراره. ربما أحداث كونية، كنشوء الحياة وتطوّرها، لا تحدث سوى مرّة واحد. عندما ننظر إلى سماء صافية ليلاً، ونرى هذا العدد الهائل من النجوم والمجرّات التي تحدّق فينا من ماض سحيق، من السهل أن يتسلّل إلينا إيمان رقيق بأن هناك آخرين على الطرف الآخر، وربما يشوبنا حزن غامض إذا صدّقنا أنّنا وحيدون فعلاً في هذا الكون. وحدةٌ تعكس كآبة الكون وظلمته وقسوته.
من يدري؟ قد تنقرض حضارتنا قبل أن نعرف الإجابة النهائية على مفارقة فيرمي.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها