الإثنين 2021/12/27

آخر تحديث: 12:53 (بيروت)

أمين معلوف... الثقافة أو الهاوية

الإثنين 2021/12/27
أمين معلوف... الثقافة أو الهاوية
خلاص العالم عبر أتباع فيلسوف يوناني وهم "أقل وحشية منا، وأكثر احتراماً للضعفاء. لكنهم أقوياء إلى درجة مخيفة"
increase حجم الخط decrease
يقرر بطل رواية أمين معلوف الأخيرة، "أخوتنا غير المتوقعين" (الترجمة العربية: أخوتنا الغرباء)، الانسحاب والحياة في جزيرة أعطاها معلوف اسم "انطاكيا". والبطل رسام صحافي يقوم بتدوين يومياته. وعلى أرض الجزيرة ينقطع عن العالم، لكنه يتابع الأخبار من خلال الانترنت. وحين تتوقف الكهرباء يتوقف الانترنت، ويخمن أن كارثة كونية وقعت. وبالفعل كانت على وشك الوقوع لولا تدخل من أتباع فيلسوف يوناني قديم، قدموا الدواء للبشرية. وتشكل الرواية ما يشبه المرثية للعالم الذي أصبح في الأعوام الأخيرة "مجرد ساحة معركة للجشع والكراهية، حيث صار كل شيء مغشوشاً من فن، وفكر، وكتابة، ومستقبل". لذا يحتاج الكوكب إلى أن "يبدأ من الصفر".

يختلف معلوف عن الكثيرين من أقرانه من الكتّاب الفرانكفونيين، من بلدان المغرب العربي ومن لبنان حتى. فهذا الكاتب، الذي يعيش في صمت، فعلاً، ويكرس وقته للأدب، لا يهمه الصخب ولا الظهور الميديوي الذي فتن الكثيرين وأغواهم. كما لا نغفل أن معلوف هو أيضاً كاتب سياسي، بمعنى امتلاكه حساً سياسياً حاداً، يظهر جلياً في مقالاته السياسية والفكرية والتأملية، كما عمل في صحف ومجلات سياسية، وثقافته الشاملة تمنحه قوة الإقناع والجدل، كما أنها مكّنته من فرصة استثمار رائع لقراءته المتعددة، فأعطى القراء نصوصاً عذبة ومذهلة. وهو، فوق كل شيء، لم يسقط في دائرة "عرب الخدمة"، ولا المستعدين للتصديق على النظرات الإستشراقية، التي ما زالت تنظر إلى عالمنا العربي بتعالٍ ودونية واستخفاف. وقدم ذاته على نحو مختلف منذ أن شرع في كتابه "الحروب الصليبية كما يراها العرب"، وهو دعوة لقراءة الآخر، لفهمه ومصالحته، بدلاً من تأجيج حرب الحضارات والديانات. وخلال كتابته لروايته الأولى "ليون الإفريقي"، التي ظهرت العام 1986، وهي رواية حققت نجاحاً كبيراً جداً، اكتشف الكاتب شغفه وانجذابه للتخييل على حساب الصحافة. وتوالت أعماله التخييلية، لكنه لم يكتف بالتخييل، بل تعداه إلى الكتابات الفكرية والتأملات، ومن هنا ظهر كتابه اللافت: "الهويات القاتلة". وهو رد واعٍ وذكي على كل الأطروحات التقسيمية، والتي تريد فرض صراع الهويات والحضارات... وهناك من رأى فيه علاجاً للكثير من الأمراض التي تهدد المجتمعات الديموقراطية. ولعل ما أثير في فرنسا، خلال أعوام حكم نيكولا ساركوزي (2007-2012)، حول نقاشات الهوية الوطنية، يكشف ضحالة الواقع السياسي الفرنسي، مقارنة مع وعي الكاتب اللبناني، وما يدور الآن من حملة تحريض يقودها المرشح الرئاسي إريك زيمور ضد الإسلام والمهاجرين، يعبّر عن أزمة عميقة يعيشها بلد الأنوار بسبب السقوط الحر نحو القاع.

أمين معلوف يقترح مراكمة الانتماءات والانفتاح على الآخر/الآخرين. وليس غريباً اختياره لشخصية ليون الإفريقي، الشخصية الكوسموبوليتية والباحثة عن التعدد. والكاتب، أي كاتب، لا يعرف متى يعود للحديث عن نفسه وجذوره، أو أنه يمارسها، بطريقة مواربة، وهنا يمكن الزعم أن كل كتابة تخييلية هي كتابة أوتوبيوغرافية بامتياز. ولعله عاد إلى أصوله وجذوره اللبنانية، في رواية "صخرة طانيوس"، وهي رواية عن المنفى، منحت صاحبها أرقى جائزة أدبية فرنسية "الغونكور" العام 1993، لتكرسه الكاتب العربي الثاني الذي ينال هذه الجائزة الراقية بعد المغربي الطاهر بن جلون. وكذلك الأمر مع روايتي "التائهون" التي صدرت العام 2013 و"أخوتنا الغرباء" هذا العام. تدور أحداث الرواية الأولى أوائل العام 2001 ، وهي في جزء منها مرثية لعالم ما قبل 11 سبتمبر، قبل أن يتصاعد الضغط للانحياز بين الهويات المتحاربة المفترضة، نحو صدام كارثي. بينما كتب الثانية قبل وصول فيروس كورونا، وعجل بنشرها حين تفشى في العالم، ليطرح رؤية خيالية لإنقاذ العالم، الهاجس الذي لا يفارق هذا الكاتب الكوني.

يحاول أمين معلوف، جاهداً، بكل ما استطاع، وعبر أجناس كتابية متنوعة أن يدافع عن مثله الأعلى في الحياة، التسامح والتصالح مع الآخر المختلف، فهو القادم من بلد فسيفساء وبلد تعددية، يريد لهذه التعددية أن تنجح في كل مكان. وهو القادم من بلد يطل على بحر تقاسمته وتتقاسمه حضارات وثقافات مختلفة، وأحياناً متصارعة، يريد تغليب حوار الثقافات وحوار الحضارات، على كل نزوع لنفي الآخر وسلبه حقه في الحياة وحقه في الاختلاف، من أجل الوصول إلى مصالحة.

كتابة أمين معلوف عالمة وممتعة. لا تحس فيها بأي تنازل لا للقارئ، كي يدخل في لعبة "الجمهور عاوز كده" فيخسر أدبه وينحط، ولا للغرب، باعتباره مقيماً في الغرب.. إنه من طينة كبار الكتّاب الذين لا يعنيهم ما يقول الآخرون. لهم رسالة وسيقولونوها، مهما كانت الظروف، وهنا تكمن قدسية الكتابة. نصوص أمين معلوف تخلق قارئها النوعي، الذي يظل وفياً للكاتب، وهو سر الإقبال الكبير الذي تعرفه نصوصه وكتاباته، إن في العالم العربي أو في العالم. ولأن معلوف يريد أن يقول أشياءه، فهو يستخدم مختلف الأجناس الكتابية ليعبر عنها، فها هو كتابه القديم نسبياً: "اختلال العالم"، الذي صدر العام 2009 يضمنه الكثير من أفكاره المبعثرة في مختلف كتاباته وكتبه. نقرأ فيه ثلاثة فصول شيقة وثرية: الانتصارات الخادعة، شرعيات تائهة، ويقينيات متخيلة. بالإضافة إلى خاتمة عنونها: فترة ما قبل تاريخ طويلة. وضمن الانتصارات الخادعة التي يتطرق لها الكاتب معلوف: يعلق على ما يبدو، على الأقل في نظر الغطرسة السياسية الحكومية الأميركية، من انتصار جيش الاحتلال الأميركي في العراق.

يكتب، واصفاً حالتنا في الزمن الغابر: "حين يذهب بي تفكيري إلى أن أحد أكابر الشعراء الكلاسيكيين في اللغة العربية يدعى المتنبي، أي من ادعى النبوة (بصفة حرفية)، لأنه كان يجوب في شبابه العراق وأرض الجزيرة وهو يدعي هذا الشيء. في زمنه، في القرن العاشر، كان ادعاء النبوة يسبب عند الناس هزاً لأكتافهم وسخرية وتقطيباً للحواجب، لكنه لم يمنع المؤمنين من الاستماع إلى الشاعر وإظهار الإعجاب بموهبته. لو حدث الأمر، اليوم، لأعدم من دون محاكمة ولتَمّ قطع أطرافه، من دون أي شكل آخر من المحاكمات". ويكتب وكأنه يستشرف اليوم في نهاية العام 2021، بعد رحيل الأميركيين عن العراق: "لن تُشفى أميركا من صدمتها العراقية، ولنْ يُشفى العراق من صدمته الأميركية. سيكون ثمة عشرات الآلاف من القتلى الجدد بين طوائفه. طوائفه الضعيفة لن تعثر أبداً على مكانها في العراق. لا يتعلق الأمر فقط بالمندائيين أو الأيزيديين، لكن أيضاً بالآشوريين الكلدانيين، الذين يكفي اسمهم لتذكيرنا بلحظات رائعة من مغامرتنا الإنسانية الكبيرة...".

ويتحدث في ذلك الكتاب وكأنه يرى أمامه رائد اليمين المتطرف إريك زيمور في فرنسا: "العالم، بالفعل، يعيش ظروفاً صعبة وقاسية وقيماً انعزالية، من قبيل الأنانية "بعدي الطوفان"، في حين أنه يتوجب علينا أن نخرج من "شرعياتنا القديمة"، أي "نحو الأعلى" وليس "نحو الأسفل". ويقترح الكاتب من أجل الخروج "من الأعلى" من هذا "الاختلال" الذي نعيشه: "تبني سُلّم قِيَم مرتكزاً على أولوية الثقافة. بل أقول مرتكزاً على الخلاص عن طريق الثقافة". ولذلك تقترح روايته الأخيرة حلاً من طريق الفلسفة يقوم به أتباع الفيلسوف اليوناني أمبادوقليس (أخوتنا غير المتوقعين) الذين هم "أقل وحشية منا، وأكثر موثوقية، وأكثر احتراماً لمصير الضعفاء. لكنهم أقوياء إلى درجة مثيرة للخوف"، ويعدد الأسباب التي تجعله مؤمناً بوظيفة وأهمية الكتابة: "لهذه الأسباب، وأخرى غيرها، أنا مقتنع بأن سُلَّمنا للقِيَم لا يمكن أن يتأسس اليومَ إلا على أولوية الثقافة والتعليم. وإن القرن الواحد والعشرين، وكي نستعيد الجملة التي ذكرناها سابقاً، ستنقذه الثقافة أو سيهوي". ويفسر رأيه: "قناعتي لا ترتكز على أية عقيدة مؤسسة- بل فقط على قراءتي لأحداثِ عصري. لكني لا أظل لا مبالياً لكون الديانات التقليدية الكبرى التي أعيش معها تتضمن حثاً على الشيء نفسه: يقول نبي الإسلام: "حبر العالِم أقدس من دم شهيد" و"العلماء ورثة الأنبياء" و"اطلبوا العلم ولو في الصين"، و"اطلبوا العلم من المهد إلى اللحد". وفي التلمود نجد هذه الفكرة القوية جداً والمؤثرة: "العالَم لا يحتفظ بتماسكه إلا بفضل نفَس الأطفال الذين يدرسون".
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها