السبت 2021/12/25

آخر تحديث: 12:39 (بيروت)

"قربان" نجيب بلقاضي: كورونا بالأبيض والاسود

السبت 2021/12/25
"قربان" نجيب بلقاضي: كورونا بالأبيض والاسود
قربان
increase حجم الخط decrease
في التخلي عن الألوان على شاشة السينما، تقشف محسوب، يقلص من بهرجة الصورة لصالح عناصر الرؤية الأولية. بعيداً من الحس النوستالجي للأبيض والأسود، ولازمانيته، تحيلنا درجات الرمادي إلى تراتبية بين قطبي البصر والعماء، فيها تبرز طوبوغرافيا مساحات الفراغ، الأضواء والظلال تظهر أكثر امتلاءً، ومع تجريد الصورة من الألوان يتكثف الشكل وعلاقاته مع الأشكال الأخرى داخل الإطار. هذا الحرمان المتعمّد من لذّة اللون، يعني توجيه الانتباه إلى ما هو ضمني، وما تحت السطح. 

يختار المخرج التونسي، نجيب بلقاضي، تقنية الأبيض والأسود لفيلمه "قربان"، المعروض حالياً في صالات العرض التونسية. في الفيلم، الذي يبدأ بتنويه عن تصويره أثناء الحجر الصحي، يضفي اللون الرمادي شعوراً عاماً بالرتابة والتكرار والمحدودية. محاولات تأطير كادرات أيقونية ثابتة تلعب على علاقات النور والظلمة، مع نجاحها سرعان ما تتوقف بعد المشاهد الأولى. يقتصر دور الأبيض والأسود على فرض حالة حلمية باهتة، تراوح اليقظة حيث تكتسي المشاهد الداخلية بمسحة هذيانية خفيفة، والمدينة شبه الخاوية في الخارج تظهر تحت غلالة شبحية.  

الزوجة سارة(سهير بن عمارة)، تعمل من المنزل عبر زووم لمساعدة أسر مهددة بالتشرّد، والزوج قيس، يؤدي دوره بلقاضي نفسه، يظهر مهووساً باحتياطات صحية صارمة، خوفاً من الفيروس. في كل مرة يعود فيها إلى البيت، يخلع ملابسه كاملة في الطرقة، روتين التنظيف الدائم لليدين بالكحول، مشهد يتكرر طيلة الفيلم... الملابس تُغسل على أعلى درجة حرارة ممكنة، وفي واحدة من المرات يستحمّ قيس بسكب الكلور على رأسه ويفرك جسده به. طقوس التطهر تلك تثير الضحك، بسبب المبالغة فيها وتكرارها العصابي، لكنها تظلّ مألوفة. تضعنا مفارقة العادية والمبالغة أمام مرآة، وتذكرنا بمخاوف قريبة، لم تنته بعد، ويفرض عليها الأبيض والأسود صفة ماضٍ محفوظ ومتوارٍ إلى حين، يهدد بالعودة. 


في النصف الأول منه، يعيد "قربان" بناء عالم الحجر الصحي، برتابته وخوائه، القلق والتكرار ثيمات رئيسة، تمتد العلاقات الإنسانية عبر وسائط عازلة، وعلى مسافات، ومن وراء الأبواب المغلقة، وباستراق السمع، أو خلف الشاشات. يبدو التواصل ممكناً على الرغم من كل هذا، لكن تتخلله الشكوك وعدم الثقة. وتلك السردية الفاترة، التي تصل الى حدود الملل عمداً، تتخللها انقباضات متواترة، تنتاب قيس خلالها لحظات من الهلع المفاجئة وغير المفسّرة. 

بشكل تدريجي، تتكشّف الأسباب وراء سلوكيات قيس، وبأثر عكسي يمكن تفهم ما حدث، لكن ذلك لا يقودنا إلى فك للعقدة، بل يتصاعد التوتّر في النصف الثاني من الفيلم ويتحوّل عنفاً، لا يمكن تخمين حدوده. وفي انعطافة أخيرة، ينقلب الوسواس المنصبّ على النظافة والوقاية من المرض إلى ضده. تنتاب قيس رغبه ذهانية في الإصابة بالفيروس، يبحث عن الموت ويحاول نقل العدوى إلى الآخرين أيضاً.  

يعتمد "قربان" حلاً بسيطاً لسرديته، يقوم على تأطير فردي بمفردات لغة طبية، فبطله يعاني من مرض عقلي سابق على انتشار الوباء، والحجر الصحي مجرد محفز يدفعه إلى انتكاسه في حالته، بعدما توقف عن تناول الدواء. وتحت تأثير مقاطع فيديو يشاهدها في الانترنت، عن استعادة الطبيعية لأنفاسها نتيجة الحجر العام، تتملك قيس رغبة قهرية في تقديم نفسه والآخرين قرباناً من أجل الطبيعة. 

رغم الإمكانات المتواضعة لإنتاج الفيلم، وتباطؤ إيقاعه أحياناً تحت ثقل التكرار، نجح في سعيه لتجسيد الجانب التخريبي من هوس الرغبة في الحياة، مبرزاً طاقة التدمير الكامنة في غريزة البقاء، وفي علاقتها الملتبسة مع غريزة الموت، وبشكل أكثر وضوحاً يكثف "قربان" الجانب الانتحاري في فكرة الخلاص، وبالأخص حين يتعلق الأمر بالتضحية، أي حين ينقسم العالم إلى محض أبيض أو أسود. 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها