السبت 2021/12/25

آخر تحديث: 13:16 (بيروت)

الحكاية التي لا نتعب من روايتها

السبت 2021/12/25
الحكاية التي لا نتعب من روايتها
الفنان الهولندي هونثروست - 1622
increase حجم الخط decrease
تقول الحكاية إنّ ملائكةً من السماء تراءوا بغتةً لحفنة من الرعاة الضاربين مع قطعانهم، وكشفوا لهم سرّاً عظيماً. فالسلام الذي ينهدون إليه لا يحقّقه أوغسطس، قيصر الروم الذي يتباهى بانتصاراته على أصدقاء الداخل وبرابرة الخارج، بل يصنعه طفل مرميّ على قارعة الأشياء في زاوية منسيّة كأنّها اللامكان من زوايا فلسطين الرومانيّة. هناك، في مكان مظلم يشبه ليل هذا العالم، يولد هذا الطفل من أمّ نفخ الله في مائها من روحه. يولد كي يتألّب عليه طغاة هذا العالم وسفّاحوه في فصل جديد من فصول غيّهم. فالسلام غال، قالت الملائكة للرعاة، وثمنه قرمزيّ اللون. والطفل الذي يخلّص شعبه من خطاياهم معلّق، منذ لحظة ولادته في اللامكان، على عتمة القبر الحالكة. لذا، رآه رسّامو الأيقونات ملفوفاً بأقمطة الموت وهو بعد في المذود، فيما عيناه تنفتحان رويداً رويداّ على اختلاجات الصمت في وجه أمّه.

تقول الحكاية إنّ الذي كتب الحكاية طبيب يونانيّ من أنطاكية يدعى لوقا، حوّله شغفه بالطفل إلى أوّل «مؤرّخ» في تاريخ المسيحيّة. وتقول الحكاية إنّ الفرق ليس كبيراً بين الأطبّاء والمؤرخّين. فكلاهما مصاب بلوثة الحشريّة. ولعلّ حشريّة المؤرّخين أغوت الطبيب الأنطاكيّ، فراح يبحث عن الحكاية في تلافيف الحكاية: «ارتأيتُ أنا أيضاً، إذ قد تتبّعتُ كلّ شيء من الأوّل بتدقيق، أن أكتب على التوالي». لم يكتفِ الطبيب المؤرّخ، إذاً، بما نقله الذين سبقوه عن حكاية العتمة التي ستصطبغ بلون الأرجوان على الصليب وتتحوّل إلى دم، بل أعاد كتابة الحكاية من جديد، ربّما لاقتناعه بأنّ الحكايات تشبه الموسيقى. والموسيقى حين تستعاد، تضرب جذورها في النفس وتزداد لمعاناً.

وتقول الحكاية إنّ الطبيب الأنطاكيّ الذي صار راويةً جعل حكايته تتمفصل حول حفنة من النساء تتقدّمهم مريم أمّ يسوع، أمة الربّ، وبنت عمران كما سيسمّيها القرآن الكريم، ونسيبتها أليصابات وحنّة بنت فنوئيل، التي لم تكن تفارق الهيكل «عابدةً بأصوام وطلبات ليل نهار». في مجتمع رومانيّ يستمدّ تسويغه من الذكورة المفرطة، يمعن الطبيب في استكشاف احتمالات الأنثى في هذه الحكاية التي ستغيّر وجه العالم. من أين يأتي كلّ هذا الاهتمام بالنساء لدى الحكّاء الذي نكاد لا نعرف شيئاً عن سيرته ما خلا بعض شذرات هنا وبعض تخمينات هناك؟ هل هو حدس الطبيب الذي يدرك أنّ الله أمّن النساء على الحياة فأخذن، مذّاك، يقارعن الموت بالحبّ؟

وتقول الحكاية أيضاً إنّ الطبيب الذي كتب إنجيل النساء بحبر الروح نسج حكايته حول المستضعفين في الأرض، إذ من أجل هؤلاء دخل كلمة الله «المتردّي النور كالسربال» مكان العتمة. فصار فقيراً مثل الفقراء، غريباً مثل الغرباء، مسحوقاً مثل المسحوقين. ومن أجل هؤلاء، تنفتح السماء، وتنزل الملائكة، وتهرع إلى رعاة من صغار القوم تزفّ إليهم بشرى الطفل الذي سيحمل صليبه ذات يوم كي يعلّم الناس احتمالات اللاعنف، ويكتب بدمه حكاية الحبّ التي ينكسر المنطق فوق صفحاتها ويندثر البيان بين سطورها. فالحبّ لا يشبه سوى ذاته، وأمامه تستحي اللغة من عدم قدرتها على اجتراح اللغة.

هكذا تقول الحكاية، حكاية المسيح المولود على هامش جبابرة هذه الأرض وعتاتها، طفلاً يتشمّس في سرّ أمّه، ونبيّاً لا كالأنبياء يستنزل للمهمّشين موائد من لدن السماء فتطمئنّ قلوبهم. ومن هذه الحكاية نستمدّ الحكمة حين تنضب الحكمة. وحين يحلّ التعب في ذواتنا المهيضة، نتعب من التعب، ولا نتعب من روايتها…
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها