الأربعاء 2021/12/22

آخر تحديث: 13:48 (بيروت)

الميلاد في سيناء.. مريم في الصدارة

الأربعاء 2021/12/22
increase حجم الخط decrease
مع بدايات نشوء الفن المسيحي في القرن الثالث، ظهرت صور الميلاد الأولى بشكل مختزل. شكّلت هذه الصور أساساً لنموذج تصويري خاص بهذا العيد في القرن السادس، وتكرّر هذا النموذج الثابت في صور تميّزت بطابع إنشائي، ومنها أيقونة بيزنطية استثنائية من محفوظات دير القديسة كاترينة في سيناء تُنسب إلى القرن الثاني عشر.

هي أيقونة من الحجم الصغير، طولها 36 وعرضها 21 سنتمترا، تزخر بالأحداث، مما يجّعلها أقرب إلى عالم المنمنمات التي ترافق النصوص وتجسّد وقائعها في المخطوطات المزوقة. في وسط الجزء الأعلى من التأليف، يحضر النموذج التصويري التقليدي الخاص بالميلاد. تظهر مريم ممددة أرضا على فراشها أمام مغارة سوداء، ويظهر المسيح مقمّطاً بقماشة بيضاء في مذود في قلب هذه المغارة، كما جاء في رواية انجيل لوقا، حيث أنجبت مريم ابنها في بيت لحم، "وقمّطته وأضجعته في المذود" (2: 7).

من خلف هذا المذود، يظهر ثور وحمار يتطلّعان في اتجاه الطفل، ولا نجد في الأناجيل الأربعة أي ذكر لهذه المغارة، كما لا نجد أي ذكر لحضور هذين الحيوانين في الميلاد، غير أن صور المغارة والبهيمتين معروفة منذ القرن الرابع، ومصدرها أناجيل الطفولة المنحولة التي تتناول بإسهاب ميلاد المسيح وما سبقه وتبعه من وقائع عديدة. بحسب ما ورد في الفصل الرابع عشر من الانجيل المعروف بـ"انجيل مولد مريم وميلاد المخلص"، في اليوم الثالث لولادة يسوع، دخلت مريم الزريبة، "ووضعت الطفل في المذود، فسجد له الثور والحمار". وهكذا تحقّق ما أنبأ به النبي إشعيا: "الثور يعرف قانيه، والحمار معلف صاحبه" (1: 3). "وكان هذان الحيوانان، وهو في وسطهما، يسجدان له بلا انقطاع".

زيارة الرعيان
في أعلى الكهف، يحلّق ملاك رافعا ذراعه اليمنى في اتجاه راعيين يرفعان أعينهما في اتجاهه، ويحضر من خلفهما راع شاب يعزف على مزمار أمام قطيع مؤلف من بضعة خراف. بحسب رواية لوقا، أضجَعَت مريم ابنها في المذود، "وكان في تلك الكورة رعاة متبدّون يحرسون حراسات الليل على رعيتهم، وإذا ملاك الرب وقف بهم، ومجد الرب أضاء حولهم، فخافوا خوفا عظيما. فقال لهم الملاك: لا تخافوا، فها أنا أبشركم بفرح عظيم يكون لجميع الشعب، أنه ولد لكم اليوم في مدينة داود مخلص هو المسيح الرب، وهذه لكم العلامة، تجدون طفلا مقمّطا مضجعا في مذود. وظهر بغتة مع الملاك جمهور من الجند السماوي، مسبحين الله وقائلين: المجد لله في الأعالي، وعلى الأرض السلام، وبالناس المسرّة. ولما مضت عنهم الملائكة إلى السماء، قال الرجال الرعاة بعضهم لبعض: لنذهب الآن إلى بيت لحم وننظر هذا الأمر الواقع الذي أعلمنا به الرب. فجاءوا مسرعين، ووجدوا مريم ويوسف والطفل مضجعا في المذود" (2: 8-16).

فوق مغارة الميلاد، في القبة التي تشكّل القسم الأعلى من الأيقونة، يظهر جمهور الجند السماوي بغتة مع الملاك، وهذا الجمهور مؤلّف من جوقتين كبيرتين من الملائكة المنتصبين وقوفاً، تحيطان بشكل متواز بطرفي قمة المغارة.

غسل الطفل
عند قدمي مريم العذراء، يظهر المسيح الطفل مرة أخرى وسط حوض، محاطاً بامرأة تمسك به، وامرأة أخرى تمسك أبريقاً وتسكب منه المياه في اتجاهه. وتسبق هذه الصورة صورة أخرى تظهر فيها هاتان المرأتان، وهما تحملان الحوض والإبريق اللذين نراهما في مشهد غسل الطفل. بحسب الرواية التي وردت في ما يُعرف بـ"إنجيل يعقوب التمهيدي" (19-20)، قبل أن تلد مريم، ذهب يوسف ليبحث عن "قابلة من نسل العبرانيين"، والتقى بامرأة من هذا النسل وهي نازلة من الجبال، فمضت معه، وحين بلغت المغارة، "إذا بسحابة مضيئة تغطي تلك المغارة". وحين تبدّد النور، ظهر الطفل، وكانت أمه ترضعه. خرجت المرأة من المغارة، ووجدت قبالتها امرأة أخرى تُدعى صالومة، فأخبرتها بما رأته، وقالت: "ان عذراء ولدت ولا تزال عذراء". شكّت صالومة بمريم، ولمستها لتتيقن من حقيقة أمرها، فيبست يدها، فخرجت تقول: "الويل لي، أنا الخائنة والكافرة، لأنني جربت الله الحي"، ثم دنت من الطفل ومدت يدها إلى الطفل، فشفيت على الفور، وخرجت مبرّأة.

تختزل الأيقونة هذه الرواية بمشهد غسل الطفل، وهو مشهد تقليدي مستعار من الفن الروماني المتأخر، وقد تحوّل إلى عنصر ثابت في مشهد ميلاد في المسيح، كما في مشهد مولد مريم العذراء.

زيارة المجوس
من وسط قمة القبة الملائكية التي تكلّل الأيقونة، يخرج شعاع ذهبي يشق سواد الكهف منسكبا عند هامة المسيح المضطجع في المذود، وهو شعاع النجم الذي قاد المجوس إلى المسيح، كما جاء في رواية إنجيل متى: "ولما ولد يسوع في بيت لحم اليهودية، في أيام هيرودس الملك، إذا مجوس من المشرق قد جاءوا إلى أورشليم قائلين: أين هو المولود ملك اليهود؟ فإننا رأينا نجمه في المشرق وأتينا لنسجد له. فلما سمع هيرودس الملك اضطرب وجميع أورشليم معه، فجمع كل رؤساء الكهنة وكتبة الشعب، وسألهم: أين يولد المسيح؟ فقالوا له: في بيت لحم اليهودية، لأنه هكذا مكتوب بالنبي: وأنت يا بيت لحم، أرض يهوذا لست الصغرى بين رؤساء يهوذا، لأن منك يخرج مدبر يرعى شعبي إسرائيل. حينئذ دعا هيرودس المجوس سرا، وتحقّق منهم زمان النجم الذي ظهر، ثم أرسلهم إلى بيت لحم، وقال: اذهبوا وافحصوا بالتدقيق عن الصبي، ومتى وجدتموه فأخبروني، لكي آتي أنا أيضا وأسجد له. فلما سمعوا من الملك ذهبوا. وإذا النجم الذي رأوه في المشرق يتقدمهم حتى جاء ووقف فوق، حيث كان الصبي. فلما رأوا النجم فرحوا فرحا عظيما جدا. وأتوا إلى البيت، ورأوا الصبي مع مريم أمه. فخرّوا وسجدوا له. ثم فتحوا كنوزهم وقدموا له هدايا: ذهباً ولباناً ومراً. ثم إذ أوحي إليهم في حلم أن لا يرجعوا إلى هيرودس، انصرفوا في طريق أخرى إلى كورتهم" (2: 1-12).

تنقل أيقونة سيناء هذه الرواية في ثلاثة مشاهد تصور رحلة المجوس. يظهر الملوك أوّلاً وهم على أحصنتهم في طريقهم إلى المغارة. ويظهرون ثانية وهم يتقدّمون في اتجاه الطفل الجالس في حضن أمه بحضور ملاك يرفرف في الأعلى، حاملين له ذهبا وبخورا وعطورا. ثم يظهرون للمرة الثالثة في الطرف المقابل وهم عائدون "في طريق أخرى إلى كورتهم". وفقا للتقليد الذي ساد في القرون الوسطى، تبدو هيئة الملوك كأنّها تجسيد لأعمار الإنسان. فهناك الأمرد، وهناك من له شعر ولحية لم يغزهما الشيب، وهناك من له لحية بيضاء. ويظهر هذا الأخير ساجدا في المقدمة أمام الطفل يسوع، كما في عدد كبير من الصور المرسومة والمنقوشة التي تعود إلى تلك الحقبة.

مقتل أطفال بيت لحم
يختم لوقا هذه الزيارة بالقول: "وبعدما انصرفوا، إذا ملاك الرب قد ظهر ليوسف في حلم قائلا: قم وخذ الصبي وأمه واهرب إلى مصر، وكن هناك حتى أقول لك. لأن هيرودس مزمع أن يطلب الصبي ليهلكه. فقام وأخذ الصبي وأمه ليلا وانصرف إلى مصر" (2: 13-14). يظهر الملاك وهو يخاطب يوسف المتمدّد أرضا تحت المغارة، ثم يظهر يوسف وهو يسير بمريم ويسوع في اتجاه مصر.

تحتل واقعة مقتل أطفال بيت لحم الجزء الأسفل من الأيقونة، وهي الواقعة التي تلي زيارة المجوس والهروب إلى مصر بحسب لوقا: "حينئذ لما رأى هيرودس أن المجوس سخروا به غضب جدا. فأرسل وقتل جميع الصبيان الذين في بيت لحم وفي كل تخومها، من ابن سنتين فما دون، بحسب الزمان الذي تحققه من المجوس. حينئذ تمّ ما قيل بإرميا النبي القائل: صوت سمع في الرامة، نوح وبكاء وعويل كثير. راحيل تبكي على أولادها ولا تريد أن تتعزى، لأنهم ليسوا بموجودين".

يظهر هيرودس على عرشه وهو يأمر جنوده بقتل صبيان بيت لحم، ويظهر أربعة من هؤلاء الجنود وهم يفتكون بالأطفال، وتظهر أم تحتضن طفلها في طرف المشهد. في الأعلى، نرى أمرأه أخرى تغمر طفلها وتدخل في شق مغارة، وهي تتطلع إلى الخلف مذعورة، هربا من جندي يلاحقها شاهراَ رمحه. تحيط بهامتي الأم وطفلها هالة القداسة، وتشير الكتابة التي ترافق صورتهما إلى اسمي إليصابات ويوحنا. وإليصابات هي قريبة مريم، وهي زوجة زكريا، وأم يوحنا المعمدان الذي ولدته بعد أن كانت قد تقدمت بها السن، كما روى لوقا في الفصل الأول من انجيله.

ينقل مصوّر أيقونة سيناء حدثاً ورد في الفصل الثاني والعشرين من انجيل يعقوب التمهيدي: "وهربت أليصابات إلى الجبال عندما أُعلمت بأنهم يبحثون عن يوحنا، وكانت تنظر حولها لترى أين يمكنها إخفاؤه ولم تجد أي موضع مناسب. فقالت بصوت عال وهي تنوح: يا جبل الله، تقبَّل الأُم مع ابنها. وانفرج على الفور الجبل الذي لم تكن تستطيع تسلُّقه وتقبَّلها".

النور المشرق في الظلمات
يتناول متى في إنجيله محطات ميلاد المسيح الأساسية، ويروي لوقا في انجيله بعضاً من الأحداث التي سبقت هذا الحدث وبشّرت به. ولا نجد في إنجيلي مرقص ويوحنا أي ذكر للميلاد حيث تبدأ رحلة المسيح باعتماده على يد يوحنا المعمدان في نهر الأردن. في المقابل، تحفل أناجيل الطفولة المنحولة بالروايات الكثيرة التي تتناول بإسهاب ميلاد المسيح وما سبقه وتبعه من وقائع عديدة. ورغم عدم اعتراف الكنيسة الاولى بهذه الأناجيل كجزء من الكتب القانونية، فقد تبنت العديد من هذه الروايات بحيث أصبحت جزءاً لا يتجزّأ من تقليدها وذاكرتها الحية. ويشهد لهذا التبني بشكل واضح تطور تأليف صورة الميلاد بين البدايات الأولى للفن المسيحي في نهايات القرن الثالث واختماره في القرون الوسطى.

في هذا السياق، تنقل أيقونة سيناء بأسلوب انشائي بديع سلسلة من احداث الميلاد، وتشكل الصورة التقليدية لهذا الحدث مركز الثقل في هذا التأليف الاستثنائي. تحتل المغارة المفتوحة بسوادها الحالك وسط التأليف. يظهر المسيح في المذود في قلب هذا الليل، "والنور يشرق في الظلمات ولم تدركه الظلمات" (يوحنا 1، 5). نراه مقمّطاً بقماشة بيضاء تلف جسده على شكل كفن، فهو المخلص الفادي الذي حل بين البشر ليموت ويفتديهم بموته. يكلّل المغارة نجم مشع يلقي بأشعته فوق المسيح. لا يطغى حضور المسيح في هذه الصورة على الشخصيات المحيطة به، فالميلاد يشير إلى دخوله الحياة، أما خروجه إلى الخليقة وإعلانه البشارة فيتم في "الظهور الإلهي"، أي عند معموديّته في نهر الأردن.

تحتلّ مريم الصدارة في هذا التأليف، فمنها تأنسن الكلمة وأشرق على الكون بحسب العقيدة المسيحية. يتقدّم جمع من الرعيان في اتجاه الطفل المضطجع في المذود، وقد أرشدهم إليه ملاك الرب. وفي حركة موازية، يتقدّم المجوس الثلاثة ليقدموا للذي أتى من مشارق العلو الذهب والبخور والطيب، ويجسد هؤلاء الملوك الأمم "الغريبة" التي عرفت المسيح قبل ان تعرفه إسرائيل، كما يشهد حضور الثور والحمار.

هكذا تقدم كل المخلوقات للمسيح شكراً، كما تقول الترنيمة الميلادية البيزنطية، "فالملائكة تقدّم التسبيح، والسماوات الكوكب، والمجوس الهدايا، والرعاة التعجّب، والأرض المغارة، والقفر المذود، وأما نحن فأمّاً بتولا".
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها