الثلاثاء 2021/12/21

آخر تحديث: 19:21 (بيروت)

في وداع سنة غاضبة... السباق على الأفضل مبيعاً

الثلاثاء 2021/12/21
في وداع سنة غاضبة... السباق على الأفضل مبيعاً
فاسيلي غروسمان
increase حجم الخط decrease
السنة تلملم بقاياها وتمضي.
النوارس تبكي في الفضاء والزمن لا يمكن إيقافه.
وقد كانت سنة غريبة بحق على البشرية، فهي تواجه بعناد، ولأول مرة، خطرا عالميا ماحقا ومجهولا. تمثل بوباء "كورونا" بعد أن شلّ الايقاع المتعارف عليه للحياة على هذا الكوكب، ووضع الانسان أمام حقيقة زواله ذات يوم. سواء عبر فايروسات لا ترى بالعين المجردة، أو عبر تلوث بيئي هائل سيخنق الأرض ليدفع بها، خلال قرون، نحو هلاكها الأكيد.

ومع الضوضاء المصمّة للهجرات البشرية، والحروب غير المفهومة أحيانا، والتوق إلى حياة آمنة، تتجلى يوما بعد آخر الحاجة إلى الثقافة، والفنون، والترجمة. هي صلاة الإنسان المعاصرة. والثقافة بأبعادها الروحية المتسامية، وهي عكس الحروب والشر في أذيالها، تظل ترنيمة الأرواح الحائرة. هي حسنتنا الوحيدة كبشر في إدامة التواصل الانساني بين الشعوب. كل ذلك لخلق قيم مشتركة ذات وجه حضاري يبعد مركبنا الأخير عن الضياع، والموت.
رغم تلك الحقائق المرة إلا أنها مرت بسلام، هذه السنة الغاضبة، وكانت ممتلئة، اخطبوطية الهموم، مثل معظم أوقاتنا الحديثة. ثمة الكثير مما يجذب أنظارنا، ووعينا، ويدعونا للتأمل.

ربما بشعور غير واع تدرك ثقافتنا العربية هذه المهمة الملحّة، هي لا تملك سوى الفكر والثقافة والابتكار، فتتجه نحو الترجمة بزخم غير معهود، يمكن ملاحظته من خلال ما تضخّه دور النشر العربية كل يوم، وهي تترجم عن الانكليزية والفرنسية غالبا، وعن الألمانية والروسية والاسبانية والايطالية أحيانا، وبحمّى وهوس. وهو الأمر الذي يحمل جانيا إيجابيا على كافة الصعد.

فتح المواطن العربي، ابن تلك الثقافة، عينيه على أصوات صاخبة، حسبها نوعا من الموسيقى الصباحية: انفجارات لعبوات ناسفة، هدير دبابات تسير في الجوار، هتافات غاضبة، قصف مدفعي بعيد، حركة طائرات مسيرة تقصف بنايات أنيقة، دوي براميل تهبط من السماء نحو مدن غافية على أحلامها تنفجر بصوت مرعب، رائحة بارود مخدّر للحواس، مضبب للرؤية، ملأت أنفه بالسواد بسبب كاربون المولدات والسيارات وحرائق آبار النفط...

فالقارئ يتوق لمعرفة ما يجري حوله عبر الترجمة، سواء للشعر أو الرواية أو النظريات الفكرية والنقدية. وقد يأتي الهوس بالكتاب المترجم من قبل القارئ وسيلة هروب من واقع سيئ، وقاس، ولا يحتمل، لما فيه من دمار شامل، واحباط، وفراغ، وكأن فردنا الشرقي لا يرغب في قراءة الأعمال المنتجة عن واقعه الفج، والمتعب، والمتخلف. يهرب. كدأبه دائما. أي لا يحبّذ استعادة مأساته مرة أخرى، فيهاجر إلى عالم آخر بعيد، يحلم بالعيش فيه خيالا وواقعا.

في هذه السنة المتوارية، وبسبب الانقطاع إلى التأمل والمراقبة، لاحظت بروز ظاهرة غريبة في عالمنا العربي هي ثقافة الدوائر المغلقة، يتمترس فيها مثقفون وفنانون ومفكرون ضمن أجواء بلد ما، فلا يتواصلون مع دوائر أخرى لبلد ثان. ربما لهذا السبب تلاقي كتب ومنتجات بلد عربي ركودا في بلد عربي آخر، وهي ظاهرة تنم عن غياب همّ مشترك، أو عمل مشترك يخاطب الذائقة الجمعية في معظم البلدان العربية. في السبعينيات كمثال، وحين ظهرت رواية عبد الرحمن منيف "شرق المتوسط" تلقفتها أيادي القراء في أغلب الدول العربية، لسبب بسيط هو أن ثيمة الرواية كانت عن السجون، والتعذيب، والنضال، والتضحية. وكانت تلك السجون متشابهة في ظل السلطات العربية القمعية.

من يأبه اليوم لحركة تشكيلية قادمة من بعيد، أو قصيدة بارعة، أو رواية تستبطن أحداثا نائية، أو فتحا فكريا عن تحولات مجتمع غريب على القارئ. والناشر يبحث عادة عن الربح، ولأن الكتاب العربي الخاضع لدوائر مغلقة لا يلاقي رواجا في بيئة عربية ثانية، لا يبقى أمام الناشر سوى الاتجاه نحو الترجمة. الترجمة شعار الجميع وبغيته. نجد ترجمات في مصر والعراق وسوريا وتونس والمغرب وغيرها من البلدان لكاتب بعينه أصبح مشهورا عالميا، أو كان مشهورا، فيتلقفه القارئ الضجر مما يدور حوله، ويربح الناشر أكثر من أي كتاب لمبدع عربي قد لا يجد صدى إلا في دائرته، أي نخبة بلده. هنا تم التأكيد عمليا على أرباح الترجمة، وفشل واضح لمبيعات الكتاب العربي. أصبحت دور النشر تتسابق لا على طباعة الكتاب العربي الجديد، بل على الكتاب الأفضل مبيعا في أوروبا وأميركا، وهي ظاهرة تجعل الثقافة العربية تعيش على مبتكرات وخيالات غيرها. تتحول إلى علق ثقافي، وعلمي، وفكري، كما يحصل في الصناعات الحديثة، والتكنولوجيا، والسيارات، بحيث يتربى المواطن على الرفض للمنتج المحلي، والأنفة منه، كونه لا يضاهي الصناعات الغربية. حتى وقت قريب سادت في العالم العربي الشعارات الكبرى، وعلى رأسها العلاقة مع اسرائيل، وقضية فلسطين، والوحدة العربية، والثقافة المشتركة، والوقوف ضد الإمبريالية، والحفاظ على الهوية الدينية. وتلك مرحلة زالت من التداول، تؤكد لنا الوقائع.

كان فطور المواطن دسما: شظايا صدئة من صاروخ كاتيوشا، وذراعا من جثة مجهولة الهوية ملقاة على المزبلة القريبة، وقليلا من النفط السائل قبل التصفية المعدة للتصدير، وقطعة صلدة من حفرة الشارع الموصل إلى السوق، فوق كل ذلك صلصة ثخينة متخثرة لونها أحمر، توفرت مجانا في معظم المدن العربية، لف ذلك كله بقبضة من العملة الوطنية الرخيصة في عالم البنوك العالمية...

أفكر اليوم كيف تفرقت اهتمامات المواطن العربي. هموم المواطن المصري تختلف عن هموم اللبناني والعراقي والليبي والسوري والتونسي، بعد انهيار المقولات الضخمة، والشعارات الهادرة. في زيارتي لمعرض بغداد للكتاب الذي أقيم في حزيران الماضي، لاحظت أن معظم دور النشر العربية المهتمة بالترجمة كأداة للربح، تضع الكتب المترجمة في واجهة أكشاكها، وقدمتها بطبعات أنيقة وملفتة. قد يمكن القول أنها البضاعة الرائجة اليوم في أغلب البلدان العربية. ولعل معرض الكتاب العراقي في بغداد، لشهر ديسمبر، فبغداد لديها معرضان اليوم، وهي ظاهرة رائعة تشيع الأمل في استعادة دور العراق الثقافي. كان حدثا مميزا على الصعيد العراقي والعربي، كشف عن إقبال وتعطش معرفي لروّاده، وتلاقح فكري وفني مع المحيط العربي، بعد مشاركات جيدة لضيوف عراقيين، وعرب، تحاوروا وجها لوجه مع قارئ كان يعتبر في طليعة القراء العرب. كلما زادت بقعة التنوير في محيطنا انحسر الظلام من العقول العتيقة المغلقة.

وأشد ما نال استغرابي مهرجان البحر الأحمر للسينما في جدة: حجم المشاركات العربية والعالمية، والانفتاح الفكري للمهرجان، والحرية الشخصية في الملابس للممثلات، والتغطية الاعلامية للمهرجان، كل ذلك يبشر بانتقال لا بد منه نحو بيئة الحداثة، بعيدا عن التكلس القيمي، والرقابة الظلامية المعروفة سابقا عن المملكة. قريبا من تلك الملاحظات، كانت قراءاتي لهذه السنة غنية وانتقائية تعرف ما يلائم الذائقة. عرّفني راهب الأدب الروسي الأستاذ جودت هوشيار على إيفان بونين من خلال منشوراته في الفيسبوك، فحصلت على معظم كتبه من الانترنيت. جاء اهتمامي ببونين بسبب تجربته في المنفى. أنت تعيش في المنفى، وتكتب بلغة بلدك. تستعيد هموم كائنات تبعد عنك آلاف الأميال. تستحضر سنوات بعيدة وطفولة مندثرة لم تترك سوى ذكرياتها. تصبح اللغة عالمك الوحيد. وهذا جانب أضع له حسابا كبيرا، لأنه أصبح من الظواهر العالمية، لا العربية فقط.

قرأت ف س نايبول الترينيدادي من أصل هندي لهذا السبب أيضا. والأغرب من ذلك أرشدني جودت هوشيار على كاتب آخر لم أقرأ له سابقا هو فاسيلي غروسمان، فعثرت على روايته "الحياة والمصير" في الشبكة العنكبوتية كذلك. كانت بثلاثة أجزاء، وحين حسبت صفحاتها وجدت أنها تجاوزت الألف والخمسمائة صفحة. ليتخيلن القارئ كيف يمكن قراءة رواية بهذا الحجم؟ وما هو الوقت المتطلب لإنجاز القراءة بتركيز ومتعة؟ رغم أنني مررت بهذه التجربة في بداية هذه السنة حين قرأت "الحرب والسلم" لتولستوي، وهي تقارب حجم رواية غروسمان، ومجموعة إيفان تورغنيف للقصة والروايات القصيرة، وجاءت بحجم ألف صفحة تقريبا.

خلال النهار حضر ذلك المواطن العربي عرسا في مقبرة. كان مدعووه أمواتا نهضوا من أجداثهم، وشاهد مباراة رياضية بين طائفتين تتقاتلان بالقاذفات المضادة للدروع، والرشاشات السريعة الطلقات، والقنابل العنقودية، وهدد البعض باستخدام الغازات الكيمياوية، وربما أسلحة تمتلئ باليورانيوم المنضد. وحين ولّى هاربا، تعقبته كلاب بشرية تتغذى على الجثث، وكادت تفتك به لولا أنه ركب ساقيه مسابقا ريح السموم، وعاد إلى بيته خائفا. فكر بالعشاء، وبحث في ثلاجته فلم يجد سوى شيخ صغير يتدرب على موعظة عن عذاب القبر، وشدة الجحيم الدانتوي، في العالم الآخر. تعوّذ المواطن من الشيطان، وفكر بأخذ حمام سريع يجلب له الهدوء. لكنه وجد المياه مقطوعة. وهنا عاد إلى فراشه، أخرج حبة كبتاكون من تحت الحشية الصوف، درج لفافة تبغ زيّنها بقطعة صغيرة من الحشيش، ثم شاهد فيلما جنسيا حادا في قناة يوتيوب. وبعد لحظات معدودات شعر بالإنهاك التام فنام مباشرة، على أمل رؤية كوابيس جميلة من عالم افتراضي تدخل الفرح إلى روحه....

فعلا، وباء كورونا له ايجابيات أيضا.
عدا عن قراءاتي الخاصة المتنوعة، وقعت على روايات صدرت في هذه السنة المغلقة قرأتها بمتعة، مثل رواية "حياة حينانا" للكاتب حسين السكاف، وهي قد صدرت عن دار فضاءات. وتلقي الضوء على تحولات امرأة عراقية من خلال الظروف المتقلبة المحيطة بها، ورحلتها إلى المهجر. أعمال الكاتب المصري محمد المنسي قنديل ذات ثراء هائل في اللغة الروائية. استغرقت مني قراءتها ثلاثة أسابيع. لم اتفاعل مع رواية "الطبل الصفيح" لغونتر غراس بترجمة حسين الموزاني رغم انني قرأتها للمرة الثانية أو الثالثة. وكذلك رواية "دمشق التي ترتدي خوذة" للمهند حيدر، وصدرت عن دار نينوى. وفيها ملاحقة سوداوية لتطلعات جيل الحرب السوري، وما يعانيه من فراغ روحي وقلق. أعجبتني رواية مروان ياسين الدليمي "اكتشاف الحب"، كونها خرجت من رحم الأحداث المفجعة ولم تغفل حسها الانساني الذي لا ينضب تحت مختلف الظروف القاسية.

وقريبا من هذه كانت هناك رواية "الهامستر" ليوسف الخضر الصادرة عن منشورات إبييدي، وهي لوحة مأسوية عن حياة اللاجئين السوريين في لبنان. أما الرواية الأخرى التي وجدت فيها نمطا خاصا من الأحداث فهي رواية "والله، إن هذه الحكاية لحكايتي" للمغربي عبد الفتاح كيليطو، وجاءت عن منشورات المتوسط، حيث يأخذنا الكاتب إلى سياحة فكرية حكائية في عالم الثقافة، والنقد، والتاريخ، عبر شخصية أبي حيان التوحيدي وكتاب ألف ليلة وليلة. ثم نعيش في حيوية السرد جدل الشرق والغرب في أوربا. تجاوزت كثيرا من تفاصيل هذه السنة المتقهقرة نحو طراوة المجرة، لأنها خاصة أكثر مما تقتضيه الكتابة. تفاصيل تنتظر فضاء زمنيا أرحب سيحل علينا بعد أيام.

غادرتنا هذه السنة غاضبة، تلملم أذيال خيبتها. فيما كان الجميع على هذا الكوكب المترنح يحلم بسنة ضاحكة. لا أحد يعرف ما سيأتي به الغد. يبقى الحالمون يحلمون، والمتشائمون يبدون ندمهم الأبدي على مشاريعهم الضائعة. يولد أطفال جدد ويموت شيوخ من وباء كورونا أو غيره. ستظل الشمس تشرق، والنوارس تغني في السماء على الأقل لمليون سنة قادمة، كما يقول صديقي المتشائل، حسب وصف روائي فلسطين الراحل إميل حبيبي.....
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها