الأحد 2021/12/19

آخر تحديث: 09:49 (بيروت)

نقطة على السطر:عن تهافت المافيا وانتخابات أهل السنّة

الأحد 2021/12/19
نقطة على السطر:عن تهافت المافيا وانتخابات أهل السنّة
سعد الحريري وجبران باسيل (دالاتي ونهرا)
increase حجم الخط decrease
وصلت الطبقة السياسيّة المافيويّة في لبنان إلى ذروة مأزوميّتها. فهي تفتقد اليوم الغطاء الدوليّ الذي تسنّى لها طوال عقود، وأتاح لها أن تحوّل بلداً برمّته إلى منهبة. كذلك هي تفتقد المال الذي سمح لها برشوة الناس وإقناعهم بأنّها الخيار السياسيّ الأفضل لهم. رفعت انتفاضة 17 تشرين المجيدة الغطاء عن هذه المافيا المارقة ومرّغت سمعتها في الحضيض. ويُحسب لها، كما كتب الياس خوري ذات يوم، أنّها حطّمت صورة السلطة بكلّ مكوّناتها، وداست على رموزها، وجعلتها «نكتةً سمجةً لا تُضحك أحداً». وها هي المافيا اليوم تدور حول إصبعها كالمرأة المعتوهة محاولةً إدخال قافلة من الجمال في خرم إبرتها. كلّ شيء يصيبها بالدوار والغثيان. وهي أعجز من أن تجد تخريجةً بين مكوّناتها تمكّنها من إعادة إنتاج ذاتها بالحدّ الأدنى. لوّحت بالحرب الأهليّة، فتصدّى لها الجيش. اختطّت طريق تحريف العدل «عن مواضعه»، فواجهتها حفنة من القضاة الشرفاء. وها هي اليوم تغرق في لعبة الحكم المعطّل، لكونها في الأساس معطّلة الرؤية ولا تتقن فنّ الحكم. خالت أنّها تعافت من الضربة القاصمة التي وجّهتها إليها انتفاضة الأحرار في 17 تشرين. لكنّها تكتشف اليوم أنّ آثار هذه الضربة ما زالت تنخر عميقاً مخيخ عظامها المتآكلة. تنتصب في سوق النخاسة وتسعى، بكلّ ما أوتيت من خيال، إلى بيع شيء ما للدول كي تعيد اجتراح ذاتها. لكن، ويا للأسف، لا أحد يريد أن يشتري. راهنت على اتّفاق بين الأميركيّ والإيرانيّ يعيد إليها شيئاً من طاقة الحياة. بيد أنّ هذا الاتّفاق لا يبدو قريب المنال، والمافيا الخائفة من الاندثار لا تطيق الانتظار، وتخشى تهافتها قبل حلول «الزمن الثاني».


ما مؤشرّات هذه المأزوميّة؟ لا شكّ في أنّ معظم الأحزاب في لبنان، وربّما كلّها، ترتجف جزعاً من الانتخابات النيابيّة المقبلة، وهي تكاد تكون متّفقةً ضمناً على محاولة تأجيلها أو نسفها. فنقمة الناس التي تأجّجت إبّان انتفاضة 17 تشرين، وبعد تفجّر مرفأ بيروت، كفيلة بأن تغيّر وجه الندوة البرلمانيّة على الرغم ممّا يؤخذ، بشكل شبه يوميّ، على الأحزاب والمجموعات المنبثقة من رحم الانتفاضة أنّها غير قادرة على تشكيل ائتلاف موحّد.

على نحو أكثر تحديداً، إنّ ما يعرف بالعونيّة السياسيّة من حيث هي فكرة تستند إلى مقولة حلف الأقلّيّات في الشرق تكاد اليوم تلفظ أنفاسها الأخيرة. وهي، فضلاً عن التفسّخ الذي مُنيت به إبّان السنتين الأخيرتين، من المرجّح أن تصاب بمزيد من التشظّي بعد موت رئيس الجمهوريّة الحاليّ العماد ميشال عون، بوصفه القاسم المشترك الوحيد الذي ما زال يمنع هيكل البيت من التداعي، وذلك على الرغم من أنّه لم يحل دون تضعضع «العائلة» وتشرذمها. وليس من المبالغة في شيء القول إنّ العونيّة السياسيّة ربّما تتحوّل في المستقبل إلى ظاهرة شبه هامشيّة في الحياة السياسيّة اللبنانيّة.


أمّا الحريريّة السياسيّة، فهي تبدو اليوم أثراً بعد عين. هذا لا يحيلنا إلى التخلّي المدوّي للمملكة العربيّة السعوديّة عن سعد الحريريّ فحسب، بل يرتبط أيضاً بالكمّ الكبير من المراهقات السياسيّة التي راكمها هذا الرجل طوال السنين الماضية، والتي يدفع اليوم ثمنها. هو ربّما يدفع هذا الثمن أكثر من سواه، لكنّ هذا كامن في منطق الأشياء. فرئيس الحكومة، لكونه رأس السلطة التنفيذيّة، يتحمّل أكثر من سواه مسؤوليّة الأخطاء التي ترتكبها هذه السلطة. ثمّة «شائعات» اليوم أنّ الحريريّ ممنوع عليه أن يغادر الإمارات العربيّة المتّحدة. وثمّة أقاويل إنّه يريد الانصراف إلى أعماله، حتّى إنّه ربّما اتّخذ قراراً بالإعراض عن الترشّح في الانتخابات المقبلة. إذا كانت هذه الأقاويل صحيحة، فإنّ المواطنات والمواطنين من أهل السنّة تحديداً يتمتّعون بفرصة نادرة كي يقوموا بواجبهم الانتخابيّ من صلب المسؤوليّة المدنيّة عن المجتمع، لا من مقترب الالتصاق برجل يتربّع على مقعد الزعامة في «الطائفة» كما جرت العادة قبلاً. وهذه فرصة لا تعوّض. إنّ خطاب بعض المفكّرين المخضرمين من أهل السنّة يوحي بأنّ هؤلاء لا يستطيعون تصوّر «جماعتهم» من غير زعيم. ثمّة محام من طرابلس، مثلاً، يعتبر أنّ مشكلة مدينته المتوسّطيّة الغرّاء تكمن اليوم في افتقارها إلى زعيم. وثمّة صحافيّ ينتمي إلى بيت سياسيّ عريق في بيروت قال إنّه، بالنظر إلى تواري الحريريّ عن الأنظار، حاول إقناع الرئيس نجيب ميقاتي بارتداء عباءة الزعامة السنّيّة. من الواضح أنّ اللاهثين وراء مثل هذه الأفكار لم يدركوا بعد مدى التحوّل العميق الآخذ بالحصول تراكميّاً في الذهنيّة اللبنانيّة في ما يخصّ الممارسة السياسيّة. هم، بكلّ بساطة، ما زالوا يعيشون في أفكار مستمدّة من منظومة عقليّة ماضويّة انتهت مدّة صلاحيّتها، وأعلن ثوّار تشرين نهايتها بأيديهم الممدودة إلى الشمس، هؤلاء الذين قالوا عنهم إنّهم مراهقون ومتفلّتون ومأجورون ويأتمرون بإمرة القناصل والسفراء. 
خلاصة القول أنّ الذهاب إلى الانتخابات من خارج منظومة الزعيم الذي حوّل «الطائفة» إلى مجرّد مشاع لخدمة أغراضه السياسيّة ليس تبعثراً، ولا هو تفكّك وتحلّل. إنّه، بكلّ بساطة، ممارسة طبيعيّة لحقّ المواطنة، ممارسة لا تشبه سوى ذاتها ولا تحيل إلى سوى ذاتها. وهي لا تحتاج إلى تخديمات من هنا ورشاوى من هناك. على هذا الصعيد، أهل السنّة والجماعة، ولكون منطق الزعاماتيّة أُصيب لديهم بخسارة فادحة أكثر من سواهم، قادرون على أن يعطوا لإخوتهم وأخواتهم في المواطنة مثالاً يحتذى في الذهاب إلى صناديق الاقتراع لا يرتكز على سوى الوعي المدنيّ الصرف. فممارسة الحقّ في الانتخابات لا تحتاج إلى زعيم يوزّع المال الانتخابيّ كما «نُثرت فوق العروس الدراهم» (رحم الله المتنبّي)، بل تحتاج إلى مرشّحين يتزيّنون بالأخلاق ويتمتّعون برؤية واضحة لكيفيّة إخراج البلد من أسوأ كارثة في تاريخه… ونقطة على السطر.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها