السبت 2021/12/18

آخر تحديث: 12:36 (بيروت)

ترجمة جديدة لألف ليلة وليلة: نسوية ونصف سورية

السبت 2021/12/18
ترجمة جديدة لألف ليلة وليلة: نسوية ونصف سورية
عوالم ألف ليلة وليلة
increase حجم الخط decrease
"ترجمة حرفية وكاملة للنص العربي"، هكذا عنون الطبيب والشاعر جوزيف ماردوس، ترجمته لكتاب ألف ليلة وليلة، إلى الفرنسية (1898-1904). في مقالة الشهير، "مترجمو ألف ليلة وليلة"، يمدح بورخيس تلك الترجمة أكثر من غيرها، لكن للأسباب المعاكسة تماماً، يختلق ماردوس بعض الفقرات ليكمل عمل كتّاب النص الأصلي المجهولين، يضيف مقاطع بأسلوب معاصريه، بذاءات جديدة، فواصل ساخرة، وتفاصيل عارضة، وكثير من الوصف البصري. ما أعجب بورخيس في عمل ماردوس، هو أنه "لم يترجم الكلمات، وإنما ترجم صور الكتاب"، خالقاً نصاً فاحشاً، يثير فسقه الإعجاب بسبب حرفيته الاستثنائية.

هذا الشهر، أعلنت دار النشر الأميركية "دبليو دبليو نورتون"، إصدارها لنسخة جديدة منقحة من ألف ليلة وليلة، الترجمة الأولى من نوعها التي تنقلها امرأة إلى الإنكليزية. المترجمة ياسمين سيل، كاتبة وفنانة تشكيلية، وتشير سيرتها الذاتية إلى أنها من مواليد العام 1989 لأمّ سورية وأب بريطاني، نشأت في باريس، ولذا تترجم عن الفرنسية، بالإضافة إلى العربية. تبرز دار النشر تلك الخلفيات الشخصية في ترويجها لإصدارها الجديد، والشيء نفسه تفعله تغطية الصحافة الثقافية باللغة الإنكليزية. فمؤهلات سيل الأكاديمية وسابقة أعمالها، تبدو هامشية في الحملة الدعائية، وبالكاد تذكر. كونها امرأة، أو بالأحرى "أول امرأة"، هو ما يتم التركيز عليه. تعدنا دار النشر، بنص منزوع "الذكورية" أخيراً، ومنقح من "الاستشراق"، تجيء الإشارة الأخيرة مقترنة بتأكيد على الأصل نصف السوري للمترجمة. وكذلك يبدو عُمر المترجمة الشابة، مناسباً لوصف أسلوبها بالعصري. ومع كل ما تقدمه تلك الإشارات من تطمينات صائبة سياسياً، فإنها تدفعنا إلى التساؤل: إلى أي مدى يمكن أن تؤثر الخلفيات الشخصية للمترجم في النص؟ ألا يجب تحييدها قدرَ الإمكان؟ وبالأولى، وبأي شكل يمكن لسياسات الهوية أن تعيد كتابة التراثي؟ 

لم يكن بورخيس مخطئاً في شأن ترجمة ماردوس. فالطبيب الفرنسي، المولود في القاهرة لأسرة أرمينية كاثوليكية والذي خدم في الإدارة الاستعمارية الفرنسية في شمال إفريقيا، لم يكتفِ فقط بالإضافة والتبديل في نص ألف ليلة وليلة، بل يرجح أيضاً إنه اختلق "النسخة التونسية" من الكتاب، التي أدعى الترجمة عنها. بسهولة كان يمكن للمتخصصين مقارنة ترجمته بالمخطوطات الأصلية المعروفة، نسخة بولاق القاهرية أو طبعة كلكتا الأولى أو الثانية، لكن نسخة ماردوس التونسية لم يرها أحد غيره. ولعل هذا تحديداً ما أعجب بورخيس في ترجمته، مقارنة بترجمة أنطوان غالان إلى الفرنسية (1707-1717) وترجمة إدوارد لين إلى الإنكليزية (1838-1840). فالترجمتان، بحسب بورخيس، حاولتا تطهير الليالي من محتواها الجنسي، ففيما سعى غالان إلى تنقية فظاظات متفرقة بسبب افتقادها للذوق في نظره، فإن لين البريطاني صاحب الأخلاق الفيكتورية، اضطهدها مثل قاض في محاكم التفتيش، وترك لنا ترجمة هي "موسوعة في المراوغة".

واتفق إدوارد سعيد مع بورخيس في نبذ تلك الترجمتين، بل وبشكل ضمني رأي كل ترجمة أخرى لليالي، بنداً في المشروع الكولونيالي. فالترجمة، في نظره، ليست حقلاً للنقل أو للعلاقات الندية بين الثقافات، بل ساحة لاختلال القوى والاستيلاء وإنتاج الخطابات عن الآخر "الشرقي". 

تحذف ترجمة ياسمين سيل، الجديدة، الإشارات الذكورية، ولا نعرف ما الذي يعنيه ذلك على وجه التحديد، ذكورية الترجمات أم ذكورية النص الأصلي؟ وتضيف أيضاً عدداً من القصص المحذوفة والتي تضمنت شخصيات رئيسة من النساء، مثل باري بانو، وباري زاد، وقصة سيدي نعمان. كان إدوارد لين، قد حذف قصصاً بأكملها من ترجمته، لأنه وجد أنه من الصعب "تطهيرها من دون تشويه". أما أنطوان غالان، فقد أضاف عدداً من القصص لم توجد في النص الأصلي، مثل "علاء الدين والمصباح السحري" و"على بابا والأربعين لصاً"، لكنه نقلها من مساعد سوري مغمور، باسم حنا دياب، كان قد قابله في باريس. لوقت طويل، سيُعتقد أن شخصية السوري الباريسي غير حقيقية، وأن القصص الإضافية من تأليف غالان، حتى اكتُشف مؤخراً في مكتبة الفاتيكان كتاب بقلم دياب، عن رحلاته وإقامته في أوروبا (صدر عن منشورات الجمل).

في مقاله عن ترجمة الليالي، يشير بورخيس إلى دياب بكثير من الإعجاب، فلعل القصص التي أملاها على غالان كانت من تأليفه. فبعض الترجمات الجيدة، في رأي بورخيس، نتاج سلسلة من الأخطاء وسوء الفهم وتراكم الاختلاق والإضافة والحذف. وبالطبع لا يستطيع بورخيس تمييز المسافة بين الأصل والنسخة المترجمة، فهو لم يقرأ أبداً النص الأصلي، ولا يجيد العربية بالأساس، بل اعتمد على مقارنة الترجمات. والأرجح أن ترجمة ياسمين سيل الجديدة، بالفعل ذات حساسية نسوية، وأبعد من التنميطات الاستشراقية، لكن هذا لن يجعلها أقرب للأصل ولا أكثر أمانة. لعل سؤال الأصل لا يعنينا هنا كثيراً، أو أن الترجمة لا تنبغي مقارنتها إلا بترجمة أخرى، باعتبار كل منها عملية للحذف والإضافة، ولإعادة الكتابة بمعايير زمنها ومن موقع بعينه في بنيته الاجتماعية.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها