الخميس 2021/12/16

آخر تحديث: 13:06 (بيروت)

"رجل الآلام" على درب المزاد الأخير

الخميس 2021/12/16
increase حجم الخط decrease
في نهاية الأسبوع الماضي، أُزيحت الستارة عن لوحة من أعمال ساندرو بوتيشيلي تُعرَف بعنوان "رجل الآلام"، في إطار معرض من تنظيم دار "سوذبيز" الذائعة الصيت. على مدى يومين، تسنّى للجمهور مشاهدة هذه اللوحة التي تعود إلى عصر النهضة الإيطالية في مركز دبي المالي العالمي، قبل انتقالها إلى نيويورك، حيث سيُجرى عليها مزاد في الشهر المقبل.

لمع اسم بوتيشيلي في مدينة فلورنسا حيث وُلد في 1445 وتوفي في 1510. تقول السيرة المتناقلة منذ ذلك العصر انه افتتن بفن التصوير باكراً، فألحقه والده بمحترف الفنان فيليبو ليبي، فتتلمذ على يديه، وأنشأ محترفا خاصا به بعد رحيل معلمه في 1470، وشقّ طريقه، وأبدع في ابتكار أسلوب خاص به، وتقرّب من أسرة ميديشي، وهي العائلة التي لعبت الدور الأهم في تاريخ هذه المدينة، اقتصادياً وسياسياُ وثقافياً، وحظي برعايتها على مدى أكثر من عقدين من الزمن، أنجز خلالها مجموعة كبيرة من الأعمال العظيمة، أشهرها على الاطلاق لوحة "الربيع" في 1482، ولوحة "ولادة فينوس" في 1485.

تجسّد هاتان اللوحتان الكبيرتان بشكل خلاّق روحيّة عصر النهضة في انفتاحه على الميراث اليوناني الروماني القديم، واحيائه المواضيع الميتولوجية التي غابت عن سماء الفن في القرون الوسطى. اللافت ان بوتيشيلي ابتعد عن هذا المنحى بشكل كامل في السنوات الأخيرة من عمره، فغابت أساطير الأقدمين عن نتاجه، وسيطر الطابع المسيحي بشكل كبير على هذا النتاج. حمل هذا الطابع تعبيرية رهبانية صارمة ظهرت في مجموعة من الأعمال، منها لوحة "رجل الآلام" التي عُرضت في دبي على مدى يومين. في هذه اللوحة، يحضر المسيح في وضعية المواجهة، محدّقا في الناظر إليه بثبات، وتلتقي عيناه بعيون من يتوجه إليه. النموذج تقليدي بامتياز. يطل يسوع بملامحه المعروفة، وينسدل شعره طويلا على كتفيه. يعلو رأسه أكليل من شوك، وتتساقط من جبينه قطرات من الدم. يداه المقيدتان ترتفعان فوق صدره، ولباسه ثوب أرجواني بسيط.

يتبنّى بوتيشيلي نموذجاً يُعرف بـ"هوذا الإنسان"، والعبارة مستعارة من انجيل يوحنا، حيث يُقتاد يسوع إلى الوالي بيلاطس ليحاكمه، "فحينئذ أخذ بيلاطس يسوع وجلده. وضفر العسكر إكليلا من شوك ووضعوه على رأسه، وألبسوه ثوب أرجوان، وكانوا يقولون: السلام يا ملك اليهود. وكانوا يلطمونه. فخرج بيلاطس أيضا خارجا وقال لهم: ها أنا أخرجه إليكم لتعلموا أني لست أجد فيه علة واحدة. فخرج يسوع خارجا وهو حامل إكليل الشوك وثوب الأرجوان. فقال لهم بيلاطس: هوذا الإنسان". (19: 1-5).

من جهة أخرى، تظهر على يدي يسوع علامات الصلب، وتحيل هذه العلامات إلى نموذج آخر يُعرف بـ"رجل الآلام"، يختزل صورة المسيح بعد الصلب، ويُعرف في العالم الأرثوذكسي بـ"الاتضاع الكبير"، ويُظهر يسوع وهو يحني رأسه ويغمض عينيه، رافعاً ذراعيه نحو وسطه، وتبدو علامات الصلب بشكل جليّ على يديه. يشير السيّد بأنامله إلى جنبه المطعون، وتتساقط من الجرح قطرات حمراء وبيضاء، وبحسب الإنجيل، طعن واحد من العسكر جنب المسيح المصلوب بحربة، "وللوقت خرج دم وماء" (يوحنا 19: 34).

في هذه اللوحة، جمع بوتيشيلي بين نموذج "هوذا الإنسان" ونموذج "رجل الآلام" في قالب واحد، وكلّل هامة المخلّص بهالة فريدة من نوعها ابتكرها وجعلها على صورة سلسلة من الملائكة البيضاء تحلّق بشكل دائري فوق رأس المسيح، يحمل واحد من هذه الملائكة صليبا خشبيا، وعن يمينه يحمل ملاك آخر الرمح الذي طُعن به المسامير التي سُمّر بها المسيح على الخشبة، ويتبع هذا الملاك ملاك ثالث يحمل الرمح الذي طُعن به جنب السيّد. تكتمل الصورة مع ظهور ملاك يحمل سلّما، وملاك يحمل عصاً تعلوها اسفنجة، وهي الاسفنجة التي بلّلها أحدهم بالخلّ قبل أن يجعلها على طرف قصبة ليسقي منها المسيح العطشان، بحسب ما ورد في الأناجيل.

تقارب هذه اللوحة في تأليفها لوحتين صوّرهما بوتيشيلي في السنوات الأخيرة من عمره. اللوحة الأولى محفوظة في معهد ديترويت للفنون، وتمثل المسيح بثوبه الأرجواني وهو يحني رأسه، رافعاً يمناه نحو الأعلى، مشيراً بيسراه إلى جنبه المطعون الذي يخرج منه شعاع من النور. اللوحة الثانية محفوظة في أكاديمية كارارا في بيرغامو، وتمثل المسيح في وضعية مشابهة، مع دمعة تتساقط من عينه اليمنى. في اللوحات الثلاث، يرتدي المسيح الثوب الأرجواني المعهود، غير انه يتميّز في لوحة أكاديمية كارارا بارتدائه معطفا أخضر زمرديا يعلو هذا الثوب.

في القرن التاسع عشر، امتلكت لوحة "رجل الآلام" مغنية أوبرا بريطانية تُدعى أديلاييد كمبل سارتوريس. بقيت اللوحة في عهدة هذه المغنية من 1814 إلى 1879، وانتقلت ملكيتها لاحقاً إلى حفيدتها التي عُرفت باسم لايدي كاننغهام، وعرضت هذه اللايدي اللوحة في مزاد سنة 1963، وشاء من اقتناها أن لا يُذكر اسمه بتاتاً. بقيت اللوحة في الظل منذ ذلك التاريخ، ولم تخرج إلى النور إلا في معرض مخُصص لبوتيشيلي أقيم في فرانكفورت في نهاية 2009.

بعد أكثر من عشر سنين، دخل "رجل الآلام" دار "سوذبيز" التي عرضته تباعاً في هونغ كونغ، ثم في لوس انجليس، وبعدها في لندن، ثم في دبي. واليوم، تتّجه الأنظار إلى نيويورك في انتظار المزاد الذي ستُعرض فيه في مطلع العام المقبل، ويتردّد السؤال: من سيقتني هذه اللوحة، وكم سيدفع ثمناً لها؟
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها