الأربعاء 2021/12/01

آخر تحديث: 13:12 (بيروت)

"صناعة الثورة": فنانون عرب يعيدون إنتاج الذاكرة في مونتريال

الأربعاء 2021/12/01
increase حجم الخط decrease
تقدم مجموعة من الفنانين والباحثين في الفنون المعاصرة (محمد شوقي حسن، علي قيس، علي شري، مروة أرسانيوس، رانيا ورائد رافعي، جايس سلوم، سناز سهرابي، باسل عباس، روان أبو رحمة ومجموعة مصريين) معرضاً مشتركا تحت عنوان "صناعة الثورة: التاريخ الجماعي، المستقبل المنشود". المعرض، الذي تستقبله صالة Mai في مدينة مونتريال في مقاطعة كيبيك الكندية، ضم أعمالاً منتجة في أعوام مختلفة وعلى مدى أكثر من عشرة أعوام، اختارها المنظمون كمسار بحث عن تاريخ غير مدوّن لحراكات وانتفاضات وثورات شهدتها منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا خلال الأعوام العشرة الأخيرة.

قد تكون نقطة انطلاقة المعرض ما سمي بـ"الربيع العربي" منذ العام 2011، واعتُبر نقطة تحول في تاريخ المنطقة، إلا ان الأعمال المشاركة  تعود بقراءاتها الى ما قبل هذه المرحلة، تتنقل في تواريخ وتحولات من تاريخ المنطقة غير المدوّن وتحلل البُعد العاطفي لحركات التحرر وموروثاتها السياسية والشعرية. أعمال منها توثيقية حيّة، ومنها ما اعتمد على إعادة تمثيل الأحداث او إنتاج المتخيّل منها كتابةً أو نصاً أو توليف صور واختبارات صوتية.

بين الشخصي والعام
تدخل الى المعرض من باب حكاية يرويها علي قيس في ميني دي في بعنوان "لا شيء يهم". يروي حكايته كمن يقرأ الروايات العربية في الستينيات، أخ يتخلى عن أخته، يحب الموسيقى، والدته يائسة، يدخل كلية الهندسة المعمارية، صديقاه حلمي وتوفيق، يتعرف على حبه الأول، يترك كل شيء ويهجس بفكرة واجب القتال في مجتمعه. سرد صوتي أشبه بالحدوتة الشعبية على صور المتغيرات السياسية في المنطقة العربية ومقاطع مناسبات وطنية بثت سابقاً عبر التلفزيونات الرسمية العربية.

من الخاص الى العام، يقدم محمد شوقي حسن عمله السينمائي "وعلى صعيد آخر"، مساحة شخصية مقتطعة تُبنى عليها صور منفردة ومنفصلة بعضها عن بعض، منزل لا شيء يحدث فيه، غرف وحيدة وإطلالات من النوافذ على مشاهد آتية من الشارع اليومي. فراغ الصورة يملأه ضجيج الشريط الصوتي المرافق، توليفات من نشرات الأخبار والبرامج الحوارية السياسية وصخبها المفتعل للخطابات الوطنية المجانية. مزج نصي وبصري يعتمد على ثنائيات لا يجمعها شيء سوى انتاج المزيد من الغربة والوحشة التي ترسم خريطة المنفى الشخصي.

يكمل علي شري، الباحث في أعماله عن الحدث الشخصي الذي يبني عليه توثيق الرواية الوطنية. في تجهيز الفيديو "أضغاث الأحلام" عمل على منطقة الأحلام المتداخلة في الأمكنة والأزمنة والعصية على منطق التفسير. بين الصورة المعروضة وصندوق أشبه بصندوق الفرجة، ينطلق علي شري من محادثة بالصوت والصورة  سبق أن أجريت بين رائد الفضاء السوري محمد فارس، كجزء من مهمة فضائية روسية إلى محطة MIR، والرئيس السابق حافظ الأسد. في مواجهة وجهًا لوجه، يُرتّب التجهيز عبر مصدري عرض للصورة، يتداخل فيها القديم مع الراهن ويوثق لحظتين في التاريخ السوري المعاصر بين ماضي الأرشيف والحدث السوري الراهن والعربي العام.

إعادة التمثيل
من الماضي أيضاً، تستعير المخرجة الإيرانية سناز سهرابي، صوراً بُثت في طهران في شباط/فبراير1979، مع تشريح لوحة للرسام الهولندي رامبرنت، رُسمت في القرن السابع عشر، اللوحة التعبيرية المفعمة بنظريات الضوء والظلال، والتي تحمل القيم الإنسانية وأفكار الفنان وتأملاته الشخصية حول مصير الجنس الإنساني. جنباً الى جنب، تخضع الصورتان لفعل التشريح. جسد لوحة رامبرنت، تقابلها جماهير من الأجساد تحمل رغبة الجماعة في التغيير. رؤية بصرية مزدوجة تُمسرح الجسد والذاكرة والمشاعر في ظل أنظمة انتاج السلطة والمعرفة المختلفة.

إعادة تمثيل الحدث بين زمنين، رانيا ورائد الرافعي يبينيان فيلمهما "برولوغ" الذي يعتمد على حدث حصل العام 1974، حين احتل الطلاب حرم الجامعة الأميركية، احتجاجاً على الظلم السياسي والاجتماعي. يعيد الفيلم، الحدث، برمزيته وخطابه، ويعاد تمثيله بواسطة مجموعة من الناشطين الشباب شاركوا في احتجاجات وحراكات شهدتها بيروت خلال الأعوام الأخيرة. بين الواقع والمحاكاة، بين الواقع والمتخيّل، بين الفعل والمبتغى، يفكك الفيلم بعض الأسئلة المتعلقة بأي ثورة، مثل: ما الذي يقود إلى التغيير؟ ما الذي يحشد الناس؟ كيف يتلاءم الوعي الفردي مع إرادة الجماعة؟

الصورة والرمز
"كل شيء ولا شيء وأعمال أخرى" لجايس سلوم، فيلم داخل غرفة طلابية صغيرة تعيش فيها المقاومة سهى بشارة بعد اطلاق سراحها من معتقل الخيام في جنوب لبنان بعام واحد. محادثة حميمة أمام كاميرا ثابتة وقريبة من فتاة تحولت الى رمز مقاوم في بيروت الثمانينيات والتسعينيات. في الفيلم، لم تتحدث سهى بشارة عن صورتها كمقاومة وسنوات التعذيب على أيدي الاحتلال. بل انطلقت من الذاتي والانساني واليوميات والاشياء العادية، وحتى التافهة، التي كانت قيمة تتعلق بها المعتقلات، وكوّنت لدى بشارة الرؤى والمشاعر الانسانية في سجنها الإنفرادي. أشياء بسيطة مثل: منحوتات من الصابون، قطع شطرنج من بذور الزيتون، وردة وجدت طريقها إلى زنزانتها. أشياء أعادت تقديم الصورة الرمزية المسجونة للمناضلة، كما أعادت تقييم مفاهيم المقاومة والإرادة والدمج والانفصال والبُعد والقرب من الصورة المثالية للفعل المقاوم. فيلم يصور مناضلة لا تتحدث عن التعذيب، بل عن المسافة بين الربح والخسارة، بين عشرة أعوام من عمر فتاة وما خلفته وراءها وما بقي منها.

الصورة-الرمز، تيمة اشتغلت عليها مروى أرسانيوس، في عملها الفيديو المشارك "هل قتلت يومًا دبًا أو أصبحت جميلة؟" صورة المناضلة الجزائرية جميلة بوحيرد، التي قدمت في الأعمال السينمائية والأدبيات، وروّجها الإعلام خلال الستينات والسبعينات، تعاد قراءتها وتحليلها من خلال مجلة "الهلال" المصرية التي كانت ذات يوم إحدى المجلات الثقافية العربية الرائدة. يبحث الفيلم في الاشتراكية المصرية ونضال الجزائر ضد الاستعمار، ودور جميلة بوحيرد في رفض تهميش المرأة وسط ضجيج العناوين الوطنية العريضة. من دون أن يسقط الفيلم في تقديم الصورة–الرمز للمقاومة حق السؤال والبحث عن دور المناضل(ة) من أجل الحرية. ماذا يعني أن تصبح أيقونة؟ وكيف تعمد المشاريع السياسية إلى استغلال تلك الصورة؟

بين الواقعي والافتراضي
في المعرض، سلسلة من الأفلام القصيرة التي أنتجتها مجموعة اعلاميين مستقلين من مصر، منها آخر عمل للمجموعة "صلاة الخوف" وأفلام اخرى من سلسلة "تحية الى الشهداء". في "صلاة الخوف" تروي المجموعة حجم الخطر والضياع الذي رافق تصوير الفيلم، وحالة العجز والشعور بالذنب تجاه اعمال عنف غير مسبوقة. ويعتبر هذا الفيلم آخر عمل تعاون للمجموعة.

ينهي منظمو معرض "صناعة الثورة" بفيلم في زاوية المكان أو نهاية مساره. تقول فيفيان ساغليه، إحدى منظمات المعرض بالتعاون مع فرح عطوي: "إعادة قراءة صور التاريخ غير المدوّن لا يُفترض أن ينتهي إلى أجوبة نهائية، بل في إعادة احتمال الحلم حتى ولو خرجنا من واقع الخيبة الى الافتراضي الحالم". والفيديو الأخير هو اختصار وتكثيف لمئات الوجوه في وجه واحد، "هي صورتنا التي نقدمها كأداة تعريف عن هويتنا وذاكرتنا المتقطعة والمهددة بالإمحاء، نحملها معنا في هجراتنا الدائمة"، تقول فرح عطوي.

قد يكون العمل الأخير في مسار العرض، الجواب المفتوح على سؤال المعرض، فيديو من أعمال باسل عباس وروان أبو رحمة المشتركة، والتي تتقاطع فيها فنون الأداء مع التركيب والافتراض. اختارا أجزاء من نص لإدوارد سعيد "بعد السماء الأخيرة"، وأعادا صياغته مثل اغنية تغنيها مجموعة وجوه دُمجت في صورة رمزية واحدة. وجه واحد هو في الأصل من مجموعة وجوه سبق أن شاركت في "مسيرة العودة" التي ما زالت تتكرر بانتظام على خط تماس في غزة، وهي منطقة تقع تحت الاحتلال منذ العام 2006. أغنية ووجه "أفاتاري" يتوق للانبعاث من جديد ويصل افتراضياً إلى تلك المسافة الرمزية المحتلة.

هي عملية التحول والتبدل من أجل البقاء والإستمرار في مواجهة العنف الجسدي المباشر والعنف البطيء الممارس على صورة المكان. تبدل ليس بالضرورة الى الفضاء الافتراضي، بل الى فضاء خارج حدود الزمن، يحمي صورة الوجوه عبر التغيير والدمج، ويصل الأجساد بالمكان المحظور عليها. التاريخ غير المدوّن الذي تُعاد صياغة صوره، هو الذاكرة متقطعة الأوصال التي يحاول المعرض جمع شتاتها وإبقائها نصب عيوننا، في يوميات مدن المنافي.

(*) معرض فيديو وتجهيز فني عربي مشترك في مونتريال.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها