الجمعة 2021/11/05

آخر تحديث: 13:08 (بيروت)

خمسة أسباب لقراءة رواية دامون غالغوت الفائزة ببوكر 2021

الجمعة 2021/11/05
increase حجم الخط decrease
بدايةً، يجب القول إن جائزة بوكر تأخذ في اعتبارها كل ما نُشر في شكل كتاب روائي في العالم الناطق باللغة الإنكليزية. وهذه الملحوظة النافلة تعني الكثير، إذا فكرت في تلك الخريطة الساخرة المنتشرة في السوشال ميديا والتي تمثل تلك "الدول التي لم يغزها البريطانيون قطّ"، وفيها يظهر نفوذ التأثير الاستعماري للإمبراطورية البريطانية الذي لم يفلت منه سوى بلاد مثل بوليفيا ومنغوليا وأوزبكستان وسان مارينو والسويد وقليل من المناطق الأخرى حول العالم. يجب قول هذا مع الأخذ في الاعتبار أنه في الثاني من نوفمبر، فازت رواية "الوعد" للكاتب الجنوب أفريقي، دامون غالغوت، بجائزة بوكر للعام 2021، وأنه في كل عام، ووراء اختيار الكتاب الفائز، ثمة نظام لصنع القرار، معقّد ودقيق وحسّاس للغاية، يراعي عدداً من الأشياء والاعتبارات التي قد لا نفهمها نحن سكّان المستعمرات القديمة.


انتهيت من قراءة "الوعد" قبل ساعات قليلة من الإعلان عن فوزها، ورغم مراوحتي في الحكم النهائي عليها، فقد صدمتني بطريقة مذهلة وخاصة جداً. كنت قد تابعت تكهنات مكاتب المراهنات في اليوم السابق، والتي دعمت حظوظ الرواية للفوز بالجائزة، وبدأت في تدوين بعض الملاحظات والهوامش في حال اضطررت إلى الكتابة عنها. ثم وضّبت تلك الملاحظات، ودمجتها مع دوافع ومسببات الجائزة، وما رشح عن تلك العملية هو لائحة الأسباب التالية التي تجعل من هذه الرواية كتاباً يستحق القراءة، بصرف النظر عن الأشياء والحسابات السياسية البريطانية التي لن أفهمها أبداً.

تقول الملاحظة الأخيرة، "إنها رواية معقَّدة كما يفترض الحال بكل الروايات العظيمة". بالتعقيد، في هذه الحالة، أعني أنها "مكونة من عناصر متعددة". أولها، الأكثر وضوحاً، هو بالطبع الحبكة الرئيسة، تلك التي، إذا جاز التعبير، تعمل كملخص وموجز للحكاية، والتي تقود إلى العنوان: تبدأ في العام 1985 في جنوب أفريقيا، في مزرعة بالقرب من جوهانسبرغ، حيث امرأة (بيضاء، يهودية) تموت ببطء، وفي أثناء موتها، تأخذ من زوجها (أبيض، مسيحي) وعداً بأنه سيتبرع بمنزل ملحق بمنزلهم لخادمتهم سالومي (سوداء، مسيحية)، التي اعتنت بها مثل أختها في الأشهر الأخيرة من مرضها. وعدٌ كبير ووصية ميّت، لكن لم يكن ممكناً تحقيقه أيضاً في العام 1985 بسبب الفصل العنصري، وسينكره زوجها في البداية ثم سيتجاهله ولا يريد حتى أن يُذكَّر به أبداً.

اسم المرأة هو رايتشِل (أو راحيل)، وهي أول مَن يموت. في جنازتها نلتقي عائلة تغيب عنها السعادة، كلٌ بطريقته الخاصة، ومرآة لجنوب أفريقيا مشوَّشة وفُصامية: عنصرية، طائشة، متحفزة، منافقة. ستكون هناك بعد ذلك ثلاث جنازات أخرى لأفراد من العائلة نفسها. تروي الرواية قصة انحطاط وذبول وانهيار تلك العائلة البيضاء الأفريكانية (المنحدرة من المستوطنين الهولنديين)، من خلال تمحور الأحداث حول أربع جنازات (الأم والأب والأخ والأخت)، حدثت في عقود مختلفة، وتزامن كل منها مع تولّى رئيس مختلف السلطة في جنوب إفريقيا. أربع جنازات في ثلاثين سنة، وأربع مواعيد هي أهم مسوح للأحداث. أم وأب وثلاثة أطفال، يتقابلون ويكبرون ويتقاتلون ويموتون ويعيدون الكرّة. يبقى وعد البداية (ومن هنا تأخذ الرواية عنوانها) في خلفية الأحداث بالطبع حتى النهاية. يطفو أحياناً مرئياً، وأحياناً أقل وضوحاً، في العواصف التي مرّت بها جنوب أفريقيا من 1985 إلى 2018، وهو العام الذي تنحى فيه الرئيس جاكوب زوما أخيراً بعد اتهامات عديدة تتعلق بالفساد.

ثانياً، نحن في جنوب أفريقيا، والعنصر الأساسي، الذي يوازي حبكة العائلة البيضاء، هو العنصر التاريخي. جنوب أفريقيا دولة ذات تاريخ عنيف ومعقد للغاية، وتعقيده ناتج من شدة عنفه وتراكم مظالمه. يكتب غالغوت عن ذلك من دون ادعاء أو أسطرة: الفصل العنصري، مانديلا، بقاء الأقفاص العنصرية القديمة، الكارثة السياسية في السنوات الأخيرة. في فقرات معينة، تلك المعنية بما قبل 1994، نواجه عالماً من الفصل الوحشي والانتهاكات المنهجية والحرمان من أبسط الحقوق. مثلاً، الخادمة سالومي، سوداء، فلا يمكنها حضور جنازة رايتشِل. في أواخر الثمانينيات، كانت جنوب أفريقيا تحيا توازناً هشّاً وزائفاً على خطوط صدع وإرث مظالم الاستعمار. عندما بدأ نظام الفصل العنصري في التصدع بشكل أكبر، اتخذت الديمقراطية المستقبلية ملامح أكثر وضوحاً. كان هناك حديث عن أمة قوس قزح، عن أمل جديد. كان كل شيء يتعلق بمستقبل واعد. عند نقطة الانهيار هذه، يبدأ غالغوت روايته عن عائلة بيضاء لأحفاد المستعمرين القدامي ومزرعتهم خارج العاصمة بريتوريا، ليُظهر كيف تؤثر التغييرات السياسية والاجتماعية العظيمة في الدائرة الصغيرة للسادة البيض وخدمهم السود.

قد لا يبدو هذا أصلياً جداً كثيمة روائية، لكن غالغوت يحوّل القصة الحزينة والمؤسفة عن عائلة وبلد يواجهان صعوبة كبيرة في الوفاء بوعودهما، إلى لعبة هجائية-تهكمية، تضمّ عناصرها ملحمة عائلية وتاريخاً وطنياً ونقداً اجتماعياً. يملك ناصية سرديته ويحكم تدوير دفة الرواة فوق الشخصيات، مع النظرة الثاقبة لنسرٍ يتجسس على فريسته من ارتفاع شاهق. أكثر من مرة يأخذ غطساً بأنفه ويخطو داخل الشخصيات وتجاربهم الحميمة ومكامنهم الضعيفة. كل الحركات والنقلات، من بعيد أو من قريب، تُنفَّذ بدقة وبراعة. في بيان منح الجائزة، قالت مايا جاسانوف، التي ترأست لجنة تحكيم بوكر 2021، "لقد توصلنا إلى قرار بعد الكثير من النقاش"، وأن الإجماع النهائي كان حول كتاب يتمتع "بأصالة رائعة وسيولة في الصوت.. ويختبر الشكل بطرق جديدة". وهنا يأتي السبب الثالث: الشيء المذهل في كيفية كتابة هذه الرواية هو أسلوبها المرن (المُربك في بدايته) المنسوج ببراعة داخل وخارج وجهات نظر معينة، بانتقالاته السريعة عبر مشاهد مختلفة وبتغييره المتكرر لوجهة النظر. تتأرجح وجهة النظر في الرواية بين ضمير المتكلم وضمير الغائب، ومن وقت لآخر نرى بعيون/ أو ندخل دماغ فرد مختلف من الأسرة، الأب العنصري أو الابنة الصغيرة آمور، أمل الأسرة.


من ناحية أخرى، لا يسيء غالغوت استخدام الحوار أو يتعسّف في استعماله لأغراض شارحة، وعندما يستخدمه، يجد طريقة لجعله مهلوساً، لاستعادة تأثير إنسانية يتيمة ومهجورة غير قادرة على التواصل. مثل هذا الحديث بين الإبن أنطون وجندي آخر، حين يعلم بوفاة والدته أثناء فترة تجنيده العسكرية:

- لقد فقدت والدتي.

= ضائع؟

- أطلقت عليها النار من بندقيتي لحماية الوطن

= هل قتلت والدتك؟

- ما اسمك؟

= باين

- آه عظيم. لقد التقينا بالفعل. هل أنت قصة رمزية؟ هل أنت حقيقي؟ هل لديك اسم أيضاً؟

= هل تريد أن تعرف اسمي؟ لماذا تريد أن تعرف؟

-  أنا أستسلم، أيها الجندي باين

= هل أنت بخير؟

- هل يبدو ذلك جيداً بالنسبة لك؟ لا لست بخير. أمي ماتت. شكراً على الصحبة يا باين. أراك في الجبهة.


السبب الرابع: في هذا البحر الشاسع من الأحزان الشخصية والوطنية، يختار غالغوت أن يأخذ مسافته الضرورية للبقاء منفصلاً وساخراً. ما من أثر لشفقة، ولا حتى ظلٍّ لثقل تاريخي أو معلوماتي. اغتراب وانعزال الشخصيات، كلٌ بطريقته، يساعد في صقل هذا النَفَس الهازل في خضم الخوض في مستنقع من الأوحال الإنسانية والتاريخية، لكن من المريح حقاً الارتحال عبر أربع جنازات وتقلبات وانعطافات بلدٍ يحاول التخلص من نصف قرن من العنصرية المستوطنة، مصحوباً بمرشد يتمكن دوماً من العثور على دعابة شرسة ولاذعة في أقل الأماكن احتمالاً. على هذا النحو، يصل القارئ لفهم الأزمة الحقيقية في بلد ربما انتهى فيه الفصل العنصري قانونياً، لكن الانقسام المأساوي بين مكوناته ظلّ قائماً ومتوالداً.

أخيراً فالرواية مكثّفة ومكتنزة للغاية (أول طمث، ذنب، جنازة، اهتمام ذكوري، ديانات مختلفة) ورغم ذلك ليست مضغوطة أو جافة، بل ينساب فيها الوقت والزمن كما لغة غالغوت الشعرية الرائعة. هناك الكثير من الدلائل التي ينبغي اتباعها والمشاعر التي يجب استيعابها، ما يجعل قدرة غالغوت على تركيز كل شيء في رواية متوازنة كهذه إنجازاً جديراً بالاحترام. لا أعتقد أنه بالإمكان الحديث عن "الرواية الأفريقية العظيمة" كما هو الحال بالنسبة للرواية الأميركية، فأفريقيا ليست دولة، بل مليار ونصف المليار شخص منتشرون في 54 دولة مختلفة. ربما يعمل التوصيف بشكل أفضل إذا أزلنا أداة التعريف. "الوعد" تملك كل ما يمكّنها أن تصبح رواية عظيمة، في أفريقيا أو في أي مكان آخر.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها