الخميس 2021/11/04

آخر تحديث: 12:11 (بيروت)

تحولات صباح فخري: الأصالة، التلفزيون، الرقص، والكأس

الخميس 2021/11/04
increase حجم الخط decrease
بقدر ما هي سيرة فنية وموسيقية، إلا أن سيرة صباح فخري هي سيرة تلفزيونية وإذاعية أيضاً، تبدأ فصولها الأولى مع ظهور الإذاعة في حلب العام 1949، قبل أن تنتقل إلى مرحلة جديدة مع ظهورالتلفزيون في الستينيات، لتنتهي بشكل محزن بعد أكثر من نصف قرن على الفضائيات اللبنانية التي ستحاول استغلال نجوميته حتى آخر مشواره (أحياناً بالإستعانة بأحد أولاده الطامحين للشهرة).

كما أبناء جيلي، لم أعرف صباح فخري سوى في مرحلته الأخيرة، كضيف دائم في الفضائيات وكمغني حفلات "شعبية"، فقط من دون أن يتاح لي سماع أعماله مسجلة بشكل نظيف في استديو. شكّل ذلك حاجزاً بيني وبينه، فأنا كمحب للطرب، لم أستسغ يوما الغناء الإستعراضي "المنشغل دائماً بإسعاد الجمهور بضمان إسماعه ما يحب" (وفق وصف الناقد فادي العبدلله لتحولات المطرب الأخيرة)، والذي نجده عادة عند المغنين الشعبيين. وبشكل لا إرادي، يثير ارتيابي حجم التكريس الإعلامي الذي حظي به فخري، والتي تتقاطع لا بد مع خيارات سياسية وعلاقات بالسلطة (يُظهر علاقته بالسلطة قرارُه تغيير إسمه "تقديراً لفخري البارودي"، وصولاً إلى ترؤسه نقابة الفنانين ودخوله مجلس الشعب).

لكن نظرتي هذه لن تلبث أن تنقلب كلياً، حين بدأت بالتعرف على المطرب قبل التسعينات، والذي يبدو شخصاً مختلفاً كلياً عمن عرفناه في سنواته الأخيرة. في البداية، تعرفت على أعماله التلفزيونية خلال بحثي في "يوتيوب"، وبينها برنامج "نغم الأمس"، الذي جمعه مع صباح الجزائري ورفيق السبيعي (إنتاج 1978). ووقعت مباشرة في حب هذا البرنامج الذي يمتلك هدفاً بسيطاً للغاية: تعريف المشاهدين بفنون الغناء الأصيل من الموشحات والأدوار والقدود والقصائد، بمرافقة لوحات بصرية تعطي قيمة للأزياء والديكورات المعمارية بصفتها استمرارية للتقاليد الغنائية. وتسجل السلسلة وتوثق نحو 160 لحناً، ومن الواضح أن مجهوداً كبيراً قد بُذل من أجل إخراجها بالشكل النهائي المتقن. طبعاً، أتت هذه الأعمال خلال المرحلة الأولى من عمر التلفزيون، أي في سياق إنتاجي سابق على ضغوط الجماهيرية التي ستجعل إنتاج برامج ثقافية خلال العقود اللاحقة ضرباً من المخاطرة.


عدا عن "نغم الأمس"، شارك فخري في مسلسلات وبرامج تلفزيونية أخرى، من بينها "الوادي الكبير" مع وردة الجزائرية وسمير شمص، وهو مسلسل تاريخي من إنتاج تلفزيون لبنان، و"أسماء الله الحسنى" مع عبد الرحمن آل رشي ومنى واصف، بالإضافة إلى مسلسلات سورية مختلفة حل فيها ضيفاً، بينها مقالب "غوار"، الذي كان يستضيف مغنياً في كل حلقة (مقهى الإنشراح).

لكن أداء فخري لم يكن مختلفاً فقط في البرامج التلفزيونية السابقة على التسعينيات، بل أيضاً في الحفلات التي نجد تسجيلات لها في الإنترنت من الستينيات والسبعينيات. يبدو هنا صباح فخري استمرارية لمدرسة حلب في الغناء التي خرّجت أساتذة الموشحات والقدود خلال النصف الثاني من القرن العشرين، مثل صبري مدلل ومحمد خيري، اللذين تعلما أيضاً على يد أستاذ الموشحات في سوريا عمر البطش، وهو أستاذ صباح فخري أيضاً.

في حديث لـ"المدن"، يعيد الناقد فادي العبد الله هذا التحول الذي حصل مع صباح فخري إلى عوامل عديدة: ""المستمع الى قديم صباح فخري يلحظ قدرات صوتية خارقة وذاكرة هائلة وحسا ايقاعيا دقيقا. ما يؤسف له ان ضغوط الزمن والعمر المديد والرغبة في انتزاع اعجاب الجمهور جعلته يزيد من جرعة القدود الخفيفة الراقصة والمواويل والقصائد التي يلمع فيها صوته على حساب اعمال اكثر تطلبا من الناحية الفنية كالموشحات والادوار او اعمال خاصة به. قدراته الصوتية الاستثنائية وعمره الفني الطويل تضافرا ايضا مع الرغبة في اسعاد الجمهور بضمان اسماعه ما يحب، وهذا انعكس حتى على مستوى اسلوبه في الزخرفة والارتجال، حيث بات في اغلب الاحيان يستعمل ما هو مضمون النجاح اكيده، وقلت بذلك المخاطرة سواء في اختيار ما سيغنيه او في كيفية ادائه له، خلافا لبعض مجايليه ممن يرتبط طربهم، رغم ان صوتهم اضعف من صوته، باندفاع متجدد ومجازفة بالا يحالفه النجاح في كل مرة. لذا نحزن مرتين على غيابه، غياب الصوت والحضور الاستثنائيين وغياب العلم الغزير والذاكرة الموسوعية التي لم تسجل لنا كل ما حوته ويضيع في غيابها".

من ناحية أخرى يمكن رؤية تحولات صباح فخري كمحاولة للتأقلم مع التغيرات التي شهدها العالم العربي منذ الثمانينات، مع تراجع نمط من الغناء الطربي، لصالح نمط أكثر تناسباً مع السرعة التي فرضها مجيء الفيديو كليب. لذلك كان عليه ربما المحاربة على أكثر من جبهة من أجل البقاء في القمة، وكي لا يتحول جزءاً من الماضي، كما حصل مع مطربين من جيله، وجدوا أنفسهم فجأة على الهامش، وصاروا يُقدمون كموضوع للنوستالجيا، كأنهم أموات، وهم ما زالوا على قيد الحياة.


لكن صباح فخري لم يتبع الطريق نفسه الذي اتبعه أبناء الجيل الجديد مع الفيديو كليب، بل أبقى على الحفلات كأداة أساسية للإنتشار، طبعاً مع الاستعانة بالفضائيات التي تبرع في تقديم الإثارة البصرية المرافقة. ربما النموذج الأوضح والأشهر، تلك الحفلة التي رافقته فيها راقصة أصبحت رمزاً جنسياً عند جيل كامل من السوريين خلال التسعينيات. يؤكد ذلك كنان كوجة في منشور فايسبوكي: "مع ظهور الفضائيات وحاجتها إلى سد ساعات الفراغ بترفيه متنوع، ظهر صباح فخري بشكل جديد بعيداً من الرزانة والتحفظ اللذين كانهما في شاشة التلفزيون السوري. في حفلة (شبكة) أوربيت الشهيرة، جار القمر، تحولت الراقصة المتمايلة على صوته الصداح في قدّك المياس، لأيقونة جنسية بين راكبي البولمانات وجمهور الفيديو وCD، وأصبح صباح فخري للجميع، ليس فقط للذواقة وشريبة العرق، بل للشباب والرحلات الجامعية وفي السيارات...".

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها