الثلاثاء 2021/11/30

آخر تحديث: 14:29 (بيروت)

أنطوان نجم... حلم الفدرَلة وفوبيا المحمودات

الثلاثاء 2021/11/30
أنطوان نجم... حلم الفدرَلة وفوبيا المحمودات
واحد من شخصين كتبا لبشير الجميل دراسة حول كيفية الإستيلاء على السلطة.. فمن الثاني؟
increase حجم الخط decrease
في مقدمة كتابه "أنطون سعادة في الطريق المسدود"(*)، يورد أنطوان نجم لمحة عابرة عن مكان مولده، ثم لحظة تحوّله أو صدمته، فيقول: "ولدت في العام 1934، في طربلس، عاصمة الشمال اللبناني. هنا كبرتُ، وتعرفتُ إلى الآخر. واستيقظ اللبنانيّ فيّ هنا، أيضاً. لم أكنْ أدرك دور الآخر، أي آخر، في وعي الذات وفي بلورتها وصقلها. فاكتشفت أن الآخر مرآتنا. نرى عبره ومقابله أنفسنا. نتفحصها. نشرحها... في طرابلس عرفتُ من أنا. برزتْ لي هويّتي. فأنا مسيحي مشرقيّ"... لم يسهب نجم في شرح ماهية الآخر، والأنا، وعلاقة ذلك بالمدينة الشمالية التي ولد فيها، في حارة النصارى، وهو الماروني الآتي من أصول قرطباوية (نسبة الى بلدة قرطبا في جبيل). لم يقل في المقدمة مَن هو اللبناني الذي استيقظ فيه؟ لكن بالمختصر، ومن دون مواربة أو ضباب أو غشاوة، يعتبر نجم ان المحيط الإسلامي السنيّ، العثماني، جعله يتشدّد إلى هويته الدينية او الطائفية أو مسيحيته المارونية، بل بات يزايد على بيار الجميل، مؤسِّس "الكتائب"، في مسيحيته.

ولم يقتصر الأمر على المحيط الإسلامي، مع ما يعنيه ذلك بالنسبة للطائفة التي كان مركزها الأساس في جبل لبنان، فالصدمة في مسيرة أنطوان نجم، تمتدّ الى العروبة، وصار "متحفظاً إلى أقصى الحدود في استعمال كلمة عربي الى حد التطرف"، حسبما قال لمجلة "المسيرة" التابعة لـ"القوات اللبنانية"، وصدمة العروبة كانت في العام 1951، عندما التقى ميشال عفلق، أحد مؤسسي حزب البعث العربي، في طرابلس في منطقة أبو سمرا. كان ملاحقاً من النظام الانقلابي الثالث في سوريا الذي وراءه أديب الشيشكلي. وسمع عفلق يتكلم عن أمور لم تنقر في جوّانيّتيه أيّ وتر. ولم يكن لما قاله أيّ صدى ايجابي في نفسه، على العكس. يقول نجم "شعرتُ وكأنه يعمل على استئصالي من تربتي، وعلى سلخي من جلدي، لأن الموضوع كان يدور حول "العروبة" من زاوية ذكرى المولد النبوي". ثمة سرديات كثيرة حول ميشال عفلق والاسلام أو الاسلام والعروبة في فكره، وهو عاش ما يشبه "الغربة" في هذا المجال، كما يقول الشاعر أنسي الحاج. وما يقدمه نجم الذي يعيش "صدمة الاسلام والعروبة"، يذكرنا بالليبرالي سيد قطب الذي عاش "الصدمة الحضارية" بعدما سافر الى أميركا وعاد اسلاموياً. فجُملة من الأسباب والوقائع جعلت قطب ينقلب رأساً على عقب، ويدعو الى الدولة الاسلامية، وجُملة أسباب دفعت أنطوان نجم الى أن يكون من رافعي راية الفدرالية.

وحين يتحدّث نجم عن هويته المسيحية، نحسبه يتقمص شخصية سعيد عقل وشاعريته. يقول إنه عرض على والده ما جرى في لقاء ميشال عفلق، فإذا "بمربى صخور الجبل يتدفّق في الكلام عن الحريّة، والمسيحية والمسيحيين في لبنان. كان يندفع كالسيل الهادر الجارف الذي لا يبقى في طريقه عائق أو حاجز". يضيف: "في جلستنا تلك، سمعت من ابن قرطبا ما أثار عاطفتي وهزّ وجداني وأنار الطريق أمامي. منذ تلك اللحظة، بدأت مسيرتي الوطنية السياسية". وحبذا لو يقدّم نجم سرداً لهذه المسيرة (الوطنية) ومآلاتها وتوصيفاً لطريق بشير الجميل، كما قدّم تفكيكاً لخطاب أنطون سعادة القومي والشمولي. الأرجح أن نجم يتحمّس أكثر، ويواظب أكثر، على  قراءة الآخر ومعرفة الآخر، وإبقاء الأنا خارج المحاسبة والاستطلاع والنقد. والحال أنه لطالما سمعنا عن أنطوان نجم، أستاذ الفلسفة في جامعة الروح القدس، بأنه أبرز وجوه الحلقة الضيقة التي كانت تحيط بالرئيس الراحل بشير الجميل، فهو مستشاره الأول، ومنظّر عقيدته. لكن بُعيد اغتيال الجميل العام 1982، انسحب نجم شيئاً فشيئاً من الحياة السياسية، ولم يقدم قراءة دقيقة وشاملة لتلك المرحلة التي كانت مفصلية ودموية وما زالت آثارها السلبية حتى الآن.

فبحسب كتاب "أسرار الحرب الأهلية" لآلان مينارغ، طلب بشير الجميل من لجنة الدراسات الاستراتيجية(القواتية)، التفكير في إمكانية تطوير عمله السياسي. فعقد أول اجتماع سري في 6 آب 1980، وكانت النقاشات يومها قد أوضحت بصورة جلية استحالة القيام بأي عمل خارج الحدود المفروضة في صيغة 1943 اللبنانية، واستنتجت من ذلك أن هناك حلاً واحدًا فقط لا غير، ألا وهو الثورة من أجل تغيير الأنظمة والقواعد المعمول بها. يومها، قرر بشير "الإنتقال" للاستيلاء "على الدولة"، وفي أقصى حد، في العام 1982، عام الانتخابات الرئاسية المقبلة. إلا أن ما بقي مجهولاً، بحسب مينارغ، هو معرفة كيفية تحقيق ذلك، لذا كلّف بشير اثنين من أعضاء لجنة الدراسات الاستراتيجية، "نبتون"-أستاذ في الفلسفة، و"جبرايل"-عسكري محترف(**)، أن يدرسا في جو من السرية الفائقة جميع إمكانات الوصول الى السلطة. فطيلة خمسين يومًا، أمضى الرجلان فترات بعد الظهر وأمسياتهما، في عزلة بين جدران مكتب نبتون. وتوصلا بجهد متواصل ومعزز بالقهوة والسجائر الى وضع الخطوط العريضة، ثم التفاصيل، للتقرير الذي حمل عنوان "دراسة لقيام بشير بالإستيلاء على السلطة".

كان "نبتون"، هو أنطوان نجم نفسه، الماروني الجبيلي الذي نشأ في حي النصارى في طرابلس ضمن محيط سنّي، وقد انطبعت طفولته "بعقدة الإسلام" والأكثريات، فكان نصيرًا شرسًا لنظرية "كل في بيته"، وهو صاحب شعار وكتاب "لن نكون ذمّيين". وهو الذي أوحى للفنان زياد الرحباني، في مسرحيته "فيلم أميركي طويل"، بشخصية المسيحي الذي يعيش في خشية دائمة من "المحمودات". في العام 1975، ترك أنطوان نجم حزب الكتائب. فقد لام بيار الجميل الأب، لأنه بالغ في تعلقه بالتعايش مع المسلمين. كان أنطوان نجم يفضّل للبنان نظامًا فدراليًا يفصل تماماً بين المسلمين والمسيحيين. لذا التحق ببشير لتأسيس تيار ثوري يناضل بحسب مينارغ "من أجل التقارب مع الدولة العبرية التي كان يرى، في ما اعتمدته من منهج مثالاً يحتذى. ولقبه بشير بـ"نبتون" لأنه سقط في البحر أثناء أحد اللقاءات السرية على متن زورق إسرائيلي كان راسيًا في عرض البحر قبالة جونيه، ذات ليلة من ليالي شهر آذار 1977.

ويقول انطوان نجم في حديث إلى "المسيرة"، إن أول ما لفت نظره سياسياً هو قضية فلسطين والصراع بين أهلها واليهود، ومن ثم تقسيمها وقيام دولة إسرائيل، ولا يدري لماذا إستوقفته هذه المسألة. يقول: "كنت اتساءل لماذا هذه الحرب بين الفلسطينيين واليهود؟ وكنت استغرب أن يأتي أناس غرباء من أوروبا وأميركا ليستوطنوا في أرض ليست أرضهم ويقوم صراع بين المقيمين والوافدين. كما لم أكن أعي، وانا في الرابعة عشرة من عمري، الإسلام السياسي، وأن الإسلام دين ودنيا"...

وأنطوان نجم نفسه، الذي قدّم مينارغ مختصراً مفيداً عن شخصيته وتوجهاته، يعتبر "كل فكر قومي هو فكر اصطناعي يقوم على أوهام"... و"بلغت من النضوج ما يكفي الى حد أنني رفضت حتى القومية اللبنانية (الى جانب رفض القومية العربية والسورية)"، لأن هناك خلطاً بين هوية الشعوب والدولة. دولة لبنان بنيت العام 1920، هذه حقيقة تاريخية، وهنا يقول نجم "كنت على خلاف طفيف مع الدكتور شارل مالك الذي كان يقول إن لبنان عمره 6 آلاف سنة. لبنان الذي كان يتكلم عنه هو لبنان الجبل، كجبل سيناء وجبل طوروس. لكن صدف أن جماعة تسكن هذا الجبل هم الموارنة التصقوا بهذا الاسم، ونقلوه من الاسم الجغرافي البحت الى انتساب انساني إليه".  

وما زال أنطوان نجم يقول: "طبقوا الفدرالية ليرتاح لبنان".. "لو كان بشير حياً لما حصل ما وصلنا اليه اليوم".


(*) صدر عن دار "سائر المشرق"، وهو يحتاج الى قراءة خاصة، نعود إليه قريباً.
(**) "جبرايل" الشريك في إعداد التقرير، كان ميشال عون. بحسب مينارغ كان بشير مذهولاً بفعالية المقاومة التي أبدتها الوحدة التي قادها ميشال عون أثناء معركة خاضها ضد الفلسطينيين في خلدة العام 1973. كما واستقبله بكل ترحاب بعد سنتين، عندما اتصل به عون لحظة إنفجار الجيش. كان الضابط سريًا جدًا في علاقته ببشير. وأنطوان نجم هو صلة الوصل بينهما، إذ إن جبرايل قد وثّق معه صداقة متينة، رغم اختلافهما العميق حول نقطة إنشاء كيان مسيحي، فكلاهما العضوان الأوّلان في لجنة الدراسات الاستراتيجية.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها