الإثنين 2021/11/29

آخر تحديث: 13:44 (بيروت)

كارتييه وفنون الإسلام

الإثنين 2021/11/29
increase حجم الخط decrease
يقيم "متحف الفنون التزيينة" في باريس، بالتعاون مع متحف دالاس للفن، وفي رعاية متحف اللوفر ومؤسسة كارتييه، معرضا مميزا عنوانه "كارتييه وفنون الإسلام، عند ينابيع الحداثة". يتبع هذا المعرض منهجية البحث المقارن، ويجمع بين بعضٍ من أشهر المجوهرات التي صنعت عظمة مؤسسة "كارتييه" في عصرها الذهبي، ومجموعة من الآثار الإسلامية تشهد للدور الكبير الذي لعبته في ابتكار هذه المجوهرات الحديثة وصياغتها، مسلّطا الضوء على الدور الذي اضطلعت به الفنون التزيينة الإسلامية في تأسيس حركة الحداثة الغربية.

وفقاً للتقليد المتبع، ترافق افتتاح هذا المعرض مع صدور كاتالوغ علمي خاص به يتضمن مجموعة من الأبحاث حملت توقيع أربعة من كبار البحاثة في هذا الحقل. ويشكل هذا الكاتالوغ خير مرجع لاكتشاف هذا التاريخ المثير. كما هو معروف، كارتييه اسم لمجموعة عالمية للسلع الفاخرة تقوم بتصميم وتصنيع المجوهرات والحلى والساعات، ومقرها الرئيس العاصمة الفرنسية. أسس هذه الشركة لويس فرنسوا كارتييه في باريس hgعام 1847، يوم كان في الثامنة والعشرين من عمره. شقّ هذا الصائغ طريقه بثبات في عهد الأمبراطور نابوليون الثالث، ودخل في شراكة مع أخيه ألفرد في 1874.

تولّى ألفرد إدارة الشركة التي عظم شأنها خلال بضع سنوات، وفي نهاية القرن التاسع عشر، عهد بمهمة الإدارة إلى أبنائه الثلاثة لويس، بيار، وجاك. وفي عهد هؤلاء، عاشت هذه المؤسسة عصرها الذهبي، وجذبت منتجاتها أشهر الملوك والأمراء، فبلغت شهرتها الآفاق. لعب لويس ألفرد كارتييه دوراً كبيراً في تحديث مجوهرات هذه المؤسسة العالمية، وتكشف الأبحاث المعاصرة عن الأثر الكبير الذي مارسته الفنون الإسلامية في هذا التحديث، وذلك من خلال تفكيك وتشريح أشهر الحلى التي ابتكرها لويس، والكشف عن مصادر هذه الابتكارات. وُلد لويس في باريس، صيف 1875، وبدأ مشواره الفني في زمن انبهر بعض كبار الذوّاقة الأوروبيين بالفنون الإسلامية وشرعوا في تكوين مجموعات "إسلامية" خاصة، وانكبّوا على دراسة زخارفه وتحليل تقنيّاته، وذلك بغرض استنباط طرق جديدة من شأنها إعادة الروح إلى الفنون الحرفية الأوروبية.

في العام 1828، نشر المستعرب جوزيف رينو أول كاتالوغ كامل خاص بمجموعة إسلامية خاصة، وهي مجموعة الديبلوماسي الدوق دو بلاكاس. بعدها أصدر باسكال كزافييه كوست كتاباً خاصاً بالعمارة العربية في مصر، وأصدر اميل بريس دافين موسوعته الضخمة "الفن العربي من خلال آثار القاهرة". في 1878، أنشئت "مؤسسة متحف الفنون التزيينية"، وفي حلول 1890، ضمّت مجموعة هذه المؤسسة 996 قطعة فنية إسلامية. ساهمت هذه المؤسسة في التعريف بالفنون الإسلامية من خلال تنظيم معارض كبيرة خاصة بها كان أولها في العام 1893. تبع هذه التظاهرة معرض خاص بالمجموعات الباريسية الإسلامية في العام 1903، ومعرض خاص بالأنسجة والمنمنمات في 1907، ومعرض للمنمنمات الفارسية في العام 1912.

اقتنى لويس ألفرد كارتييه خلال هذه السنوات، مجموعة من التحف الإسلامية، وأسّس مجموعة خاصة، غير أن هذه المجموعة تبعثرت بعد وفاته في 1942 للأسف، ويبدو أن القسم الأكبر منها دخل إلى مجموعات أميركية خاصة. كذلك، جمع لويس ألفرد كارتييه عدداً كبيراً من الإصدارات الأوروبية الخاصة بالفنون الإسلامية، وقام بدراستها بتمعن كما تظهر دفاتره ومدوناته الخاصة، إضافة إلى مدونات زميله مصمم المجوهرات الشهير شارل جاكو الذي عمل لصالح مؤسسة كارتييه على مدى 25 سنة. يعيد منظمو معرض "كارتييه وفنون الإسلام" اليوم جمع العديد من القطع التي تعود في الأصل إلى مجموعة لويس كارتييه الخاصة، كما يعرضون مجموعة من كتبه ومدوناته، إضافة إلى عدد من رسوم شارل جاكو التحضيرية، وذلك في موازاة مجموعة من مبتكرات مؤسسة كارتييه، وتكشف هذه المقارنة عن الأسلوب الفذ الذي اعتمدته المؤسسة في الاستلهام والابتكار والتحديث.

دخلت الجمالية الإسلامية ميدان الفنون التطبيقية الفرنسية في العقود الأولى من القرن العشرين، وتركت أثرها العميق في عدد من كبار العاملين في هذا الميدان، منهم  تيودور ديك وأوجين فيكتور كولينو وفيليب جوزيف بروكار ولوسيان فاليز، على سبيل المثل لا الحصر. أعجب تيدودور ديك بالسيراميك العثماني وغاص في أسراره، كما افتتن بالزخارف الفارسية التصويرية ووجد فيها مادة تزيينية ضخمة، فنقل منها وصنع أواني عديدة تبدو في ظاهرها إسلامية شرقية بحتة. كذلك، نجح فيليب جوزيف بروكار في صناعة زجاجيات مطابقة تماما للنماذج الأيوبية والمملوكية، كما نجح في ابتكار نماذج خاصة به تشكّل استمرارية لنتاج القرون الوسطى. في المقابل، اعتمد لويس كارتييه طريقا مغايرة، واستلهم من غير أن ينقل، ومن هنا برزت فرادته في هذا الحقل في مطلع القرن العشرين. نهل الصائغ من الميراث الفارسي بشكل أساسي، وتجلّى هذا الاستلهام في الدرجة الأولى في تقاسيم الأشكال الهندسية والجمع بين اللونين الأزرق الفيروزي والأخضر الزمردي. وقد برزت هذه التوليفة في ما عُرف باسم "ديكور الطاووس" منذ ذلك الزمن إلى يومنا هذا.

في 1933، ترك لويس كارتييه المؤسسة ليستقر في بودابست برفقة زوجته الكونتيسة الهنغارية جاكلين ألماسي، وعهد قبل سفره بمنصب الإدارة الفنية إلى تلميذته المصممة جان توسان التي شغلت هذا المنصب على مدى ثلاثة عقود. سارت جان توسان على خطى معلمها، واستلهمت من الميراث الإسلامي الهندي بشكل خاص، كما يظهر المعرض اليوم، متبعاً الأسلوب نفسه في العرض والمقارنة والتحليل. اقتنت جان توسان مجموعة كبيرة من الحلى الهندية الإسلامية، وقامت بتفكيكها، وأعادت استعمال حجارتها الأصلية في حلى من ابتكارها، وعرفت هذه الحلى شهرة واسعة في زمنها. 

في الخلاصة نهل لويس ألفرد كارتتيه من فنون العالم الفارسي الإسلامي في مطلع القرن الماضي، وصنع مع شارل جاكو مجموعة متنوعة من القطع المبتكرة صنعت شهرة المؤسسة التي أدارها فنيا على مدى ثلاثة عقود. بعدها، خلفت جان توسان معلمها، واستلهمت من فنون العالم الهندي الإسلامي، وشاركت مع فريق من الحرفيين في صياغة مجموعة أخرى من المنتجات المبتكرة التي رفعت شأن المؤسسة في السنوات التي تلت الحرب العالمية الثانية.

يعيد معرض "كارتييه وفنون الإسلام" اكتشاف هذه المسيرة الفذة، ويسلّط الضوء على منابعها وروافدها المتعددة، مشدّدا على طابعها الحداثي الذي صنع فرادتها الخاصة.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها