الجمعة 2021/11/26

آخر تحديث: 12:05 (بيروت)

عودة المتنبي.. فليسكت الشّعرُ والاحتجاجُ ليتحدّثَ الوَجعُ

الجمعة 2021/11/26
عودة المتنبي.. فليسكت الشّعرُ والاحتجاجُ ليتحدّثَ الوَجعُ
"الآن أتعالج بصحبة المتنبي، على الأقل أختبر دائي".
increase حجم الخط decrease
يأتي كتاب "ولكنّ قلبي.. متنبّي الألفية الثالثة"(*) للمصري يوسف رخا، ليثبت أن التجديد في الظاهرة الإبداعية لا يعني نفض اليد والعين والقلب عن الماضي بأيامه الخوالي وأدبياته البعيدة التي قد تتطلب شروحًا لأجوائها ومعانيها ولغتها، ويبرهن بشكل عملي أن التجريب الحقيقي في الشعر والسرد وأدب الاعتراف والمذكرات، والكتابة عمومًا، يحتضن في طياته العميقة وجوه الاشتباك الواعي مع الموروث الحياتي والجمالي؛ تفاعلًا وتمحيصًا وتفهمًا ومعايشة.

إعادة قراءة الثوابت الفنية والمعرفية والتاريخية، الكتابة الموازية أو الكتابة عن الكتابة ومنها، تفكيك الذات وتشريح اللحظة الراهنة وتحليل البيئة المكانية والمجتمعية الحالية من خلال اكتشاف الآخر المختلف عنّا في عصره وتُربته، الانتصار للقصيدة في قديمها وجديدها على كل أنماط القول وسائر تفاصيل الانخراط اليومي في المعاناة والمعارك والرياء الاجتماعي والسياسي والمشاوير الاستهلاكية، فضح الكثير من أزمات الفرد والجماعة وتعرية الأوضاع المؤسفة في عالمنا، الإصغاء النهائي الغائي إلى "صوت الوجع" باعتباره الصوت الوحيد الأعلى والأعرض من صوت الشعر في ماضينا وفي يومنا الذي يجبرنا على أن نَحْذَره وَنَكْرَهه، هي كلها "أغراض" بالتعبير القديم و"منصّات" بالتعبير الجديد لإطلاق كتاب يوسف رخا (45 عامًا)، المنشغل دائمًا في أعماله بالشعر والسرد وأدب المكان وشواهد التاريخ، ويضاف إلى ذلك اهتمامه في كتابه الأخير بأدب التراجم (تجربة المتنبي الملتبسة)، وأدب السيرة الذاتية (بمعنى أن ينزع المرء أحشاءه، ويستخرج أعضاءه الداخلية واحدًا واحدًا، على أمل في فهم دائه، وربما بلوغ وَصْفَاتٍ شافية).



الكتاب، الذي يستغرق 110 صفحات، يتضمن شقين، على غرار الكتب القديمة: الديوان (قصائد نثر للمؤلف)، والشرح (قصة المؤلف مع المتنبي)، بالإضافة إلى رسوم وليد طاهر التعبيرية الدالة. وهذه المنظومة كلها، من كلمات واسكتشات بصرية تخييلية، تدّعي أنها ظلال لشبح المتنبي العائد في الألفية الثالثة، والمطلّ على واقع مصري وعربي مأزوم ومهزوم، خصوصًا في ما يتعلق بوضعية المثقف، الذي تجاوز إهماله وتهميشه الحدّ الذي شكا منه المتنبي.

والحقيقة أن الكتاب يحلّق أبعد من هذا الطرح الأوّلي بكثير، فالأمر ليس فقط استدعاء مألوفًا لشخصية تاريخية لكي تدلي بأقوالها وتدين العصر الجديد وتقارن بين أوجاعه وأوجاع الماضي، على غرار نماذج مكرورة في هذا السياق، لكنه تخليق معقّد مركّب لأنفاس شعرية وسردية وتأملية وفلسفية، نزفها المؤلف نزفًا بطيئًا جرّاء اصطدامه بالمتنبي اصطدامًا حياتيًّا ملموسًا وليس معرفيًّا مجرّدًا، إذ ظل ديوان المتنبي صديقه الوفيّ لفترة طويلة، في المترو وفي العمل وأمام حمّام السباحة وفي الفراش وفي جميع الأوقات التي يحتاج فيها إلى مؤانسة ونوافذ للنجاة من الفوضى والذبول والقسوة والعدم والفضاء الأزرق البارد، لاسيما بعد عزوفه عن وسائل التواصل الاجتماعي وافتقاده القدرة على التصالح مع من حوله من بشر لا يشبهونه "على شبكات التواصل أشياء بشعة. كل أنواع الغباوة بدعوى الفضيلة. كل أنواع الشر. العالم قبيح جدًّا، والناس أوباش. لكن لعل الحياة وراء باب جانبي. لعل في الدنيا احتمالات لا تزال".

لقد وجد رخا في لقائه اليومي مع المتنبي طوق إنقاذ من العزلة والانغلاق والوحدة، بالمعنى المباشر للغربة وبمعنى الاغتراب النفسي والتشرنق الأبدي داخل الذات "وكنتُ إذا يممتُ أرضًا بعيدة.. سريتُ وكنتُ السرَّ والليلُ كاتِمُه". وعبر هذا التماهي التام مع قصائد المتنبي الثرية الدسمة، المتعددة الطبقات والتأويلات، وسيرته المليئة بالمتناقضات (الطموح والفخر والإحباط والخذلان والارتحال الحيوي واستشعار الخطر والموت والانكواء بالعشق وبالهموم والأسف الدائم على أحوال الشعراء والمبدعين ومصير أصحاب الأقلام الرفيعة والنفوس المتعالية)، راح المؤلف يحاصر يأسه المتنامي المتعاظم، فيحاور هذا اليأس مرة، ويتناساه حينًا، ويؤجله تارة، ويستعرض أسبابه وملابساته في موضع آخر، في لهاث محموم خلف إدراك مستحيلات متعددة، منها: نسيان الدوار لحظة اهتزاز المترو، إزاحة القلق رغم أن الريح تحته على طول الخط، تخطّي محنة منتصف العمر والشعور بشيخوخة الروح قبل البدن والشعر الأبيض، استنشاق هواء الحرية خارج أسوار وطن يطارد المستقلّين ويتهم الثوار والمحتجين بأنهم إسلاموفوبيك وبرجوازيون، إيجاد إجابات عن تساؤلات ملحّة من قبيل "ما الشعر؟"، و"ما جدوى الكتابة؟".

هكذا، يفتح يوسف رخا قلبه المتقلّب، لتتفجر نصوصه المتأججة في الصفحات الفردية على يسار قارئ الكتاب، فيما تتناثر أبيات المتنبي الشهيرة في فضاء الصفحات الزوجية على يمين المتلقي، وتظل المسافة بين الجانبين بمثابة جسر رمزي يصل العالمين المتعانقين، والقلبين المتحابّين في الإنسانية وفي الشعر وفي مقاومة التشتت والجدب والفناء، المتشابهين في طبيعة النبض وماهية العشق وعادة التقلب "وبي ما يذودُ الشعرَ عني أقلُّهُ.. ولكنّ قلبي يا ابنة القوم قُلّبُ".

وبموجب هذه الصداقة الفانتازية بين الطرفين، والتنقلات الرمزية والإسقاطية بين الأمكنة والأزمنة، صارت رائحة الخميرة الآدمية تفوح من جديد، من ذلك العمود الفقري الذي لم يكن منذ سنوات سوى قائم معدني يستقبل الإشارات، وعاد المطر مطرًا مبشّرًا يُنجب ديمة بعد ديمة، بعدما كان مرادفًا للغرق الحقيقي في الدموع والأحزان والدوّامات والصواعق "حملتُ انتحارًا مؤجلًا، وأنا لا أدري. حملتُ وقتًا فاسدًا، وخذلانًا كالأساطير". ومن شجاعة المتنبي، المنطوية في أعماقها أحيانًا على فراغ مبعثه التكلف "وكم من جبالٍ جبتُ تشهدُ أنني الجبالُ.. وبحرٍ شاهدٍ أنني البحرُ"، ينسج رخا استئساده وتماسكه ومعجزاته الصغيرة، التي لا تدوم طويلًا، فتفتتها الخسارات والمياه المالحة "السماء مطمورة في صدري، معقودة على الانتصارات. لكنني اليوم عار أمام المرايا، أتحسس جراحي وأجثو، لأننا الناسُ الذين عوّرونا يا حبيبتي، الذين أودعناهم نصالنا قبل أن تجفّ دموعنا عليهم/ .. / من سبح في البحر بات ماء مالحًا. ومن صعد الجبل تحوّل إلى هواء".

وتحت مظلة التناص المحوري الواسع مع المتنبي، هناك تقاطعات أخرى فرعية مع شعراء معاصرين، منهم صلاح عبد الصبور وأمل دنقل ومحمد الماغوط ووديع سعادة وسركون بولص، لتستكمل الذات الشاعرة تضاريسها الوعرة وجغرافيتها المملوءة بثقوب الآخرين ومآسيهم التي هي في محصّلتها تراجيديا المبدع والمثقف المصري والعربي في هذا التوقيت البائس، خصوصًا مع زيادة الطين بلة في السنوات الأخيرة التي أعقبت فشل الثورات العربية في تحقيق أهدافها من ضمان الخبز والحرية والكرامة والمساواة والعدالة والتعددية، فعمّ الظلام والخراب والموت المجاني، وسادت الشعارية والدعائية والعلاقات الاصطناعية "الموت طائرة بلا طيار، ونحن لسنا سوى المادة الخام لإعلانات السوشيال ميديا".

أما ذروة المرارة، ففي بيع بعض المثقفين والمبدعين الانتهازيين القضية، وكل القضايا، بثمن بخس، ونقضهم كل العهود مقابل مصالح ضيقة ومنافع صغيرة، كما يحكي في الشق الثاني من الكتاب، المخصص للشرح "لما قفلتُ الفيسبوك كان الخذلان بلغ ذروته. ليس في مآل الثورة، ليس في مظالم الأمن أو غباء النشطاء، ليس في أي شيء له علاقة بالوضع السياسي المؤلم فعلًا. الخذلان كان في أصحابي من دوائر الكتّاب والفنانين، الطليعة أو النخبة. عندهم تناقضات والتباسات وأشياء تتفاقم أمام عيني من قبل الاحتجاجات، هذا أكيد. لكن الخذلان في أنهم، لما جاء وقت الكلام الحقيقي، لم يكن عندهم غير الكليشيه والنكتة والشعار".

يلجأ رخا إلى المتنبي كصديق من لحم ودم وشعر بعد صدمته في الأصدقاء الحقيقيين والافتراضيين في آن واحد "رَحْلي خفيف في منامات السَفَر. على مسرح الجريمة، لا رفاق ولا طريق. فقط قاتلي الذي لا أراه"، ويلوذ بالشعر لكي يعيد للكلام اعتباره ووزنه وقداسته وموسيقاه الباعثة على التطهر، ليس بفخامة الألفاظ وسحر البيان بالتأكيد، لكن باعتبار الشعر مكانًا للحقيقة، التي يمكن بها تغيير العالم وتضميد الجراحات الغائرة "الآن أتعالج بصحبة المتنبي، على الأقل أختبر دائي". وفي مثل هذه الرحلة برفقة الحرف، تصير الكتابة مثل الحب، وتغدو للكلمة سلطة على الواقع، وللرؤية باتجاه العالم زاوية نظر خارج الإطارات، فيعرّي المبدع جِلْده، ويشغّل دماغه، لكي يكون مع شخص آخر أو يكون شخصًا آخر، وبهذه الطريقة فعلًا قد يتغلب على الموت، مثلما فعل المتنبي الجد، وكما يتمنى أن يفعل حفيده.

(*) صدر عن "دار التنوير": بيروت، القاهرة، تونس.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها