الجمعة 2021/11/26

آخر تحديث: 17:29 (بيروت)

بلى.. المجتمع المدني سياسي!

الجمعة 2021/11/26
بلى.. المجتمع المدني سياسي!
انتخابات نقابة المحامين.. بعض مما تخسره المعارضة في ما يفترض أنه ميدانها (المدن)
increase حجم الخط decrease
في خضم النقاش الانتخابي اللبناني، الذي يزداد حدّة كل يوم، سواء مع اقتراب الاستحقاق الانتخابي النيابي، أو بأثر من خوض تجارب انتخابات كسر عظم نقابية، من المهندسين والمحامين إلى الصيادلة وأطباء الأسنان، يبرز "المجتمع المدني" كموضوع متزايد السخونة. والحق أن العنوان هذا يعتبر محل جدل عالمي، في عصر بات يتّسم بحضور أساس "للناشطين" و"الجمعيات" في مختلف القضايا الحقوقية والإنسانية والاجتماعية-الثقافية، إضافة إلى دورة اقتصادية حيوية ومتكاملة تتمحور حول منظمات ومجموعات مدنية، من التمويل إلى الرواتب والإنفاق على مشاريع دون أخرى، مع ما يرافق ذلك بطبيعة الحال من رصد لفساد ومحسوبيات، في مقابل محاولات مشرقة للحفاظ على النزاهة والشفافية والآليات الديموقراطية في عمل تلك الكيانات. والحال إن الجدل الراهن، يبدأ من تساؤلات عن الأجندة السياسية للمموّل، وصولاً إلى التفكير في دور الدولة ومفهومها (واستغلالها للمجتمع المدني أو صراعها معه)، والسياسة وممارستها، انطلاقاً من ترسّخ "المجتمع المدني" كأمر واقع ولاعب أساس في أكثر نقاط العالم اشتعالاً وحساسية.


لكن، بعيداً من التشعبات الهائلة للموضوع، يبدو أكثر ما يثير الاهتمام بشأنه في لبنان، نفي بعض الناشطين في مجموعات سياسية عن أنفسهم صفة "المجتمع المدني"، سواء المجموعات المنبثقة عن انتفاضة 17 تشرين، أو غيرها. فيعتبرون "المجتمع المدني" بطاقة لاصقة أكثر انطباقاً على منظمات بيئية أو اجتماعية أو إغاثية، بمعنى تلك التي "لا تنطوي على خيار سياسي".

من جهة أخرى، هناك هجوم بات منهجياً وبائناً، لا سيما من إعلام أحزاب السلطة، والممانعة خصوصاً، على "المجتمع المدني" اللبناني باعتباره مفتقراً إلى برنامج عمل واضح (كأن الأحزاب التقليدية تُبهرنا ببرامجها)، مموّلاً من الخارج (ومَن يموّل القوى السياسية؟)، وبالتالي يتضمن مشاريع عملاء أو خونة أو أقلّه موظفين لا تتمتع شعاراتهم بالأصالة. ثم هناك اتهامه بتهشيم كل "آخر" (لكن هذا عمل سياسي طبيعي نراه في مواسم الانتخابات في أكثر الدول رقياً سياسياً وليدافع "الآخر" عن صوابيته بما استطاع من حجج وبراهين). ويُرمى عناصر المجتمع المدني أيضاً بالانتقاص مثلاً من وطنية الحزبيين لمجرد أنهم حزبيون (لكنهم ينتمون إلى أحزاب استحوذت على السلطة لعقود ومسؤولة عن إيصال البلد إلى انهياره الحالي!). إضافة إلى وصم "المجتمع المدني" باستغلال المآسي اللبنانية الراهنة والمساعدات لتقديم نفسه كبديل عن القوى السياسية فيما "الجمعيات الإنسانية الحقيقية ما زالت تعمل بصمت بعد انفجار مرفأ بيروت لإعادة الإعمار ومساعدة المنكوبين" (فماذا يعني مطلب الصمت هنا؟ ثم إن انفجار المرفأ والانهيار الاقتصادي حدثان مفصليان لا مفرّ من أن تقوم عليهما خطط عمل معارضي المنظومة والذين من حقّهم بل من واجبهم تقديم أنفسهم كبديل سياسي.. ويا ليتهم ينجحون في ذلك!).

ورغم التضاد غالباً في التموضع السياسي، بين طرفَي المقولتين (معارضة وسلطة)، إلا أنهما يشتركان في التبرؤ من صفة "المجتمع المدني" حينما تخالطها السياسة، إما تخففاً من تصوّر مغلوط عن محدوديتها كحامل لعمل سياسي تغييري، أو ذوداً عن تصوّر ساذج حيادي/طوباوي لها. لذا، لعلها باتت ضرورية العودة إلى تطور المفهوم وتعريفاته في نظريات مؤسِّسة للعلوم السياسية وفلسفاتها.

الصالح العام.. أليس سياسة؟
التعريف الأشمل والأعمّ، اليوم، يقول إن "المجتمع المدني" هو "القطاع الثالث" في المجتمع، كمُتمايز عن قطاعَي الحكومة والبزنس، ويتضمن أيضاً العائلة والحيز الخاص (بمعنى الضد من الحيز العام). ويُستخدم المصطلح بمعنى تجمعات أو تلاقي المنظمات غير الحكومية والمؤسسات التي  تولّف أجندات عملها انطلاقاً من مصالح وإرادة عموم المواطنين، أو جزء منهم، أو أنها الأفراد والمنظمات المستقلة عن الحكومة في المجتمع.

جعل أرسطو "المجتمع المدني" موازياً أو مكافئاً للمدينة-الأمة (polis) حيث يعيش مواطنون أحرار، على قدم المساواة تحت حكم القانون، وهو الذي افترض أن الغاية النهائية والأقصى لهذا "المجتمع" هي ازدهار الإنسان أو الصالح العام لمجمل الناس بما هم حيوانات سياسية/اجتماعية. وأولاه الرئيس والمناضل التشيكي، فاكلاف هافل، أواخر التسعينات، أهمية لافتة، إذ لجأ إلى المصطلح للدلالة إلى جمعيات مدنية مهددة من قبل الأنظمة الشمولية في دول أوروبا الشرقية الشيوعية. وما يكون التفكير في الصالح العام غير السياسة؟ ولماذا تكون الجمعيات المدنية عدوة الأنظمة الشمولية لولا أنها تمتلك تأثيراً سياسياً؟   

في مواجهة "الحق الإلهي"
اشتغل كل من توماس هوبز وجون لوك (القرن السابع عشر) على التنظير لنظام يمكن من خلاله ضمان التعايش السلمي بين البشر من خلال المواثيق أو العقود الاجتماعية. واعتبرا أن المجتمع المدني منوط به الحفاظ على الحياة المدنية بما هي المجال حيث تُستمد الفضائل والحقوق من القوانين الطبيعية. ومع ذلك، لم يعتقدا، في أيامهما، بأن المجتمع المدني هو عالم منفصل عن الدولة، وبدلاً من ذلك، شددا على التعايش بين الدولة والمجتمع المدني. وقد تأثرت المقاربات المنهجية لهوبز ولوك (في تحليلهما للعلاقات الاجتماعية) بالتجارب في زمنهما، فمحاولاتهما لشرح الطبيعة البشرية، والقوانين الطبيعية، والعقد الاجتماعي وتشكيل الحكومة... تحدت نظرية الحق الإلهي (حُكم المَلِك أو صاحب السيادة.. فكَم أن المصطلح ما زال ذا دلالة في السياق اللبناني المعاصر). وخلافاً للحق الإلهي – مُطلَق الصلاحيات والممنوح غالباً لشخص أو عائلة بالولادة ويُتوارَث باعتباره "إرادة الله" – فإن هوبز ولوك نظّرا بأن البشر يمكنهم تصميم نظامهم السياسي، وكان لهذه الفكرة تأثير كبير في مفكّري عصر التنوير.

فقد جادل مفكّرو التنوير بأن البشر عقلانيون ويمكنهم تشكيل مصيرهم، وبالتالي لا حاجة لسلطة مطلقة للسيطرة عليهم. وجادل كل من جان جاك روسو، المعروف بنقده للمجتمع المدني، وإيمانويل كانط، بأن الناس ميالون غالباً للسلام وأن الحروب هي من صنع أنظمة مطلقة. بقدر ما كان كانط معنيًا، كان هذا النظام فعالًا للحماية من هيمنة مصلحة واحدة وردع استبداد الغالبية.

"الأمير الحديث"
وبعيدًا إلى حد ما من كارل ماركس، لم يعتبر أنطونيو غرامشي، المجتمع المدني، مجالًا للعلاقات الخاصة والمغتربة. لكنه رآه وسيلة للهيمنة البرجوازية في حال تُرك ليمثل طبقة معينة دون سواها، مشدداً على الدور الحاسم للمجتمع المدني كمساهم في رأس المال الثقافي والأيديولوجي المطلوب لبقاء هيمنة الرأسمالية. وبدلاً من طرحها كمشكلة، كما في المفاهيم الماركسية المبكرة، نظّر غرامشي للمجتمع المدني باعتباره موقعًا لحل المشكلات. وثمة من يعتبر أن "سوء فهم غرامشي"، جعل "اليسار الجديد" يكلف المجتمع المدني بدور رئيس في الدفاع عن الناس ضد الدولة والسوق وتأكيد الإرادة الديموقراطية للتأثير في الدولة. وفي الوقت نفسه، يعتبر المفكرون النيوليبراليون، المجتمع المدني، موقعًا للنضال من أجل تقويض الأنظمة الشيوعية والاستبدادية. لذلك يحتل مصطلح "المجتمع المدني" مكانة مهمة في الخطاب السياسي لكل من اليسار الجديد والليبراليين الجدد.

ترتبط نظرية غرامشي للهيمنة بمفهومه عن الدولة الرأسمالية. غرامشي لا يفهم الدولة بالمعنى الضيق للحكومة. بدلاً من ذلك ، يقسمها بين "المجتمع السياسي" وهو ساحة المؤسسات السياسية والرقابة الدستورية القانونية (الشرطة، الجيش، النظام القانوني، إلخ)، وبين المجتمع المدني (الأسرة، نظام التعليم، النقابات العمالية، إلخ) كمجال خاص أو غير حكومي وفي تخاض أدوار الوساطة بين الدولة والاقتصاد. ومع ذلك، فهو يؤكد أن التقسيم مفاهيمي بحت وأن الاثنين غالبًا ما يتداخلان في الواقع.

يؤكد غرامشي أنه في ظل الرأسمالية الحديثة، يمكن للبرجوازية الحفاظ على سيطرتها الاقتصادية من خلال السماح لبعض مطالب النقابات العمالية والأحزاب السياسية الجماهيرية داخل المجتمع المدني، بأن تُلبّى في المجال السياسي. وهكذا، تنخرط البرجوازية في ثورة سلبية من خلال تجاوز مصالحها الاقتصادية المباشرة والسماح لأشكال هيمنتها بالتغير بما يسمح ببقائها واستمراريتها كمُهيمنة. ومشهورة جداً تنظيرات غرامشي، المستندة إلى مكيافيللي، عن "الأمير الحديث"، أي "الحزب الثوري" كقوة تسمح للطبقة العاملة بتطوير "المثقفين العضويين"، من قلب البروليتاريا، لإنتاج هيمنة بديلة للهيمنة البرجوازية داخل المجتمع المدني.

فلنتخلّص من هذه التهمة
التفاصيل لا تنتهي، والمؤكد أن "المجتمع المدني" موضوع وُلد كبيراً. لكن الهدف من العرض السريع أعلاه هو الإضاءة على لغط لبناني يتمدد. فأبواق القوى السياسية التقليدية/المهيمنة تشيطن المجتمع المدني لاستشعارها خطره عليها، ولو بشكل محدود، على أبواب الانتخابات النيابية، حتى بعد الفشل (المرحلي؟) لانتفاضة 17 تشرين وانتكاسات مُنيت بها مجموعاته في أكثر من مفصل، لا سيما انتخابات نقابة المحامين.

وفي المقلب الآخر، تزداد حساسية المجموعات السياسية على مصطلح "المجتمع المدني"، ربما بأثر من فضائح عديدة اعتورت هذا الجسم في لبنان، وربما أيضاً لأنها ما زالت تراه – مُخطئةً – مفهوماً لعمل في الهوامش، لا في المتن، العمل "الأهلي"، لا السياسي، وبالتالي تتعامل معه على أنه تهمة أو انتقاص يجب نفيُهما، تماماً كما تحاول جمعيات مدنية نفي تهمة السياسة.. علماً أن قضايا الجندر والدواء والتعليم والبيئة هي أيضاً خيارات سياسية، بل واقتصادية أيضاً. الأحزاب والنقابات والجمعيات والنوادي والطلاب والموظفون والصحافة والعمّال... هؤلاء كلهم مجتمع مدني. وما قد ينزع الصفة عن القوى السياسية التقليدية هو أنها، في لبنان، تشكل السلطة، وسلطة فاقدة للشرعية وأهليّة الحُكم، ومتهمة بالكثير، بلا محاسبة.

وهذا ما يستدعي إعادة تفكير جدية إن كانت هذه المجموعات تطمح فعلاً لأن تكون بديلة، أو على الأقل مُواجِهَة للمنظومة الراهنة، ورغماً عن أنوف الكارهين من عَبَدة الزعماء ومقدّسات الطوائف وأصنام الإيديولوجيات.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها