الأربعاء 2021/11/24

آخر تحديث: 13:22 (بيروت)

بيت من الأرز

الأربعاء 2021/11/24
increase حجم الخط decrease
جعل الإرث الكتابي التوراتي من الأرز ولبنان، توأماً، وخلّد ذكر الهيكل الذي بناه الصانع الصوري حيرام وجعل كل ما في داخله من خشب الأرز، كما خلّد "بيت غابة لبنان" الذي بُني "على أربعة صفوف من أعمدة أرز"، وترسّخت هذه الصور في الذاكرة الجماعية شرقاً وغرباً منذ القدم. في القرن العشرين، خرجت أوغاريت من الظلمة إلى النور، ومعها ظهر بيت إلهي آخر صُنع من الأرز، سبق بناء هيكل سليمان و"بيت غابة لبنان".

بحسب ما جاء في سفر "أخبار الأيام الأول" (22، 1-9)، قام النبي داوود بتخزين الحديد والنحاس في سنواته الأخيرة، كما جمع "خشب أرز لا يُحصى"، حمله له الصيدونيون والصوريون. وقبل وفاته، دعا ابنه سليمان وأوصاه ببناء بيت للرب، وقال له: "كان في قلبي أن ابني بيتا لاسم الرب إلهي. غير أنه صار إليّ كلام الرب قائلا: إنك قد سفكت دما كثيرا وقمت بحروب كثيرة، فلا تبني أنت بيتاً لاسمي، لأنك سفكت دماء كثيرة على الأرض أمامي، فهوذا قد وُلد لك ابن يكون رجل راحة، وأنا أريحه من جميع أعدائه من حوله، لأن اسمه سليمان، وأمنح السلام والهدوء لإسرائيل في أيامه".

عمل سليمان بوصية والده، وبعث إلى حيرام ملك صور برسالة تقول: "ها أنذا قد نويت أن أبني بيتاً لاسم الرب إلهي. فمُر بأن يُقطع لي أرز من لبنان، وخدّامي يكونون من خدّامك، وأجرة خدّامك أؤدّيها إليك بحسب كل ما ترسم، لأنك تعلم أن ليس فينا من يعرف بقطع الشجر مثل الصيدونيين" (1 ملوك 5، 19-20). أرسل ملك صور إلى سليمان صانعاً ماهرا يحمل مثله اسم حيرام، "وهو ابن امرأة من بنات دان، وأبوه رجل صوري، ماهر في صناعة الذهب والفضة والنحاس والحديد والحجر والخشب والأرجوان والبرفير البنفسجي والكتان الناعم والقرمز وصناعة كل نقش، ومخترع كل مشروع يٌعرض عليه" (1 أخبار 2، 12-13). وأتمّ الصانع عمله على أكمل وجه، وأشرف على بناء الهيكل والبيت. وجعل داخل الهيكل من خشب الأرز، و"كان كل شيء أرزاً، فلم يكن يُرى حجر" (1 ملوك 6: 18).

بنى سليمان الهيكل، كما بنى بيتا يُعرف باسم "بيت غابة لبنان"، "طوله مئة ذراع طولاً خمسين ذراعًا عرضاً وثلاثين ذراعًا عُلواً"، "بناه على أربعة صفوف من أعمدة أرز، وكان على الأعمدة لاطات من الأرز. وسقفه بالأرز من فوق على العوارض الخمس والأربعين التي على الأعمدة" (1 الملوك الأول: 7، 2)، وكان هذا البيت مقراً لإدارة شؤون المملكة.

هيكل البعل
جعل الإرث التوراتي من الأرز ولبنان توأماً، وخلّد ذكر الهيكل الذي جعل الصانع الصوري حيرام كل ما في داخله من خشب الأرز، كما خلّد "بيت غابة لبنان" الذي بُني "على أربعة صفوف من أعمدة أرز"، وترسّخت هذه الصور في الذاكرة العالمية. في القرن العشرين، خرجت أوغاريت من الظلمة إلى النور، وظهر معها بيت إلهي آخر صُنع من الأرز قبل بناء هيكل سليمان و"بيت غابة لبنان". تقع أطلال أوغاريت في موقع يدعى رأس شمرا، على بعد تسعة كيلومترات شمال اللاذقية، على ساحل المتوسط. وقد اكتشف الموقع صدفةً عام 1928، وباشر العالم الفرنسي كلود شيفر أعمال التنقيب فيه عام 1929، وسرعان ما أدّت الأعمال إلى التعرّف على حاضرة كنعانية بالغة الأهميّة شكّلت حدثاً تاريخياً في عالم دراسة الآثار.

فاقت نتيجة أعمال التنقيب توقّعات العاملين إذ كشفت عن معالم مدينة كنعانية تحوطها مجموعة من التلال، مما يثبت أنّ هذه المدينة كانت مركزاً لمواقع أخرى شكّلت معها مملكة صغيرة تمتدّ من جبل الأقرع حتى جبلة. عُرفت هذه المملكة باسم أقارت، أوغاريت، أي المدينة. من أوغاريت، خرجت مجموعة كبيرة من الألواح تحمل كتابات بلغات عديدة وصل عددها إلى ثمان. تتحدّث نصوص رأس شمرا الدينية عن سيّد الآلهة إيل، رب الأرباب الذي يشرف على الأنهار ويتنبأ بالأمطار. ويلي إيل في سلّم الآلهة ابنه بعل، أي السيّد.

في الذاكرة الجماعية يرتبط اسم بعل بالوثنية التي حاربها العبرانيون، ممّا جعل اسم إله الكنعانيين مرادفاً للخروج عن العبادة الحق. نقرأ في سفر القضاة: "فعل بَنو إِسرائيل الشرّ في عينيِ الرب وعبدوا البعل. وتركوا الرب، إِله آبائهم، الَّذي أخرجهم من أرض مصر، وتبعوا آلهَةً أخرى مِن آلهة الشعوب التي حولهم وسجدوا لَها فأَسخَطوا الرب. وتركوا الرب وعبدوا البعلَ والعشتاروت. وغضب الرب على إِسرائيل فأَسلَمَهم إِلى أَيدي السالبين فسَلَبوهم، وباعَهم إلى أَيدي أعدائهم الذين حولَهم، ولم يقدروا بعد ذلك أَن يَثبُتوا أَمام أعدائهم" (2، 11-14).

وفي "سفر الملوك الأوّل، تبلغ المجابهة مع بعل الذروة في واقعة ذبيحة الكرمل حيث دعا كهنة بعل باسم إلههم، فيما دعا النبي إيليا باسم إلهه الذي استجاب وأهبط نارا أكلت المحرقة والحطب والحجارة والتراب، حتى لَحِسَتِ الماء الذي في القَناة (18، 38). وتنتهي هذه المواجهة على ضفاف نهر قيشون حيث يقوم إيليا بذبح كهنة بعل.

في المقابل، تشهد النصوص المنقوشة على ألواح أوغاريت لأدب روحاني رفيع صيغ في لغة قريبة من تلك التي تميّز الكتاب المقدّس، وفي ذلك دلالة على تواصل شعري لا ريب فيه بين أدبيّات الكتاب المقدّس وما سمّي الأساطير الأوغاريتية التي سبقتها زمنياً. تُعرف أشهر هذه الأساطير وأطولها بملحمة البعل وعناة، وقد وصلت إلينا على سبعة ألواح كثيرة العطب، غير أن معالمها واضحة، رغم اختلاف العلماء في ترتيبها بالنسبة لسياق حوادثها.

في هذه الملحمة التي نقلها أنيس فريحة إلى العربية، يشكو البعل من سوء معاملة الآلهة له، ويقول: "ها هم يقسون عليّ ويحقّرونني، يقومون ويبصقون عليّ وسط مجمع بني الآلهة". تدعو الربة أشيرة الظافر البعل والبتول عناة إلى التوجه إلى ايل عند إقامة وليمة الآلهة، وتدخل إلى "قصر الملك أبي السنين"، وتسجد أمام ايل، وتتوسّل إليه كي يسمح ببناء بيت للبعل "كما لسائر الآلهة، ومسكن لبني أشيرة، مقام كما للإله، مظلة كما لسائر بنيه". يوافق "لطفان، إله الرحمة" على الطلب، ولكن يسأل ان كان البعل ينتظر منه ان يبني هذا القصر بيده، فتطمئنه أشيرة، وتقول: "الآن يكثر البعل من مطره، البعل يكثر من إنزال ثلجه، يعطي صوته في السحب، ويرسل ضياءه إلى الأرض بروقا، فليتمّ بناء بيت من الأرز، وليرتفع بيت من اللبن".

تحمل البتول عناة البشرى إلى البعل، وتقول له: "سيُبنى لك هيكل كما لسائر اخوتك، وقصر كما لأبناء عشيرتك. ادع الأعيان والأشراف. الجبال ستخرج كثيرا من الفضة، والتلال أحسن الذهب، فتبني هيكلا من الفضة والذهب، قصرا من جواهر العقيق". يفرح البعل، ويدعو الأعيان والأشراف، ويرسل في طلب الصانع الأكبر كاشر خاسس، ويعدّ لهم وليمة. يجلس كاشر خاسس إلى يمين البعل، ويدعو إلى بناء الهيكل "في وسط أعالي الشمال"، "بيت شاسع المساحات، هيكل يشمل ربوات الفراسخ". يختلف البعل مع المهندس الأكبر الذي أراد بناء كوة في السقف، وذلك خوفا من أن تهرب بناته من هذه الكوة، ويجيبه كاشر خاسس: "ستعود أيها البعل إلى رأيي".

يذهب الرسل إلى "لبنان وأشجاره"، وإلى "سيريون (أي حرمون) وأرزه الجميل"، وعلى مدى ستة أيام، تشتعل السنة النار في الهيكل لإعداد الذهب والفضة، وفي اليوم السابع يتمّ الصب. يفرح ببعل "ببيته الذي بُني من فضة وبهيكله الذي تمّ بناؤه من ذهب خالص"، ويأمر بذبح العجول والخراف والثيران والحملان، وينادى اخوته ويدعوهم إلى الوليمة، ويعدّ لهم الخمر، ويسرّ الجميع بهذه الوليمة.

رمح الأرز
يثبّت الظافر بعل "حبيب ايل" ملكه، و"يعبر من مدينة إلى مدينة، ويعود من قرية إلى قرية"، وعنما يطمئن على استقرار أمره، يدعو كاشر خاسس إلى بناء الكوة التي صمّمها في البدء، وتشكّل هذه الكوة "شباكا في القصر، شعرية في وسط الهيكل، كوى للسحب". يسرّ كاسر وخاسس، ويقول: "ألم أقل لك أيها الظافر البعل أنك ستعود أيها السيد إلى رأيي فيُفتح شباك في القصر، وشعرية في وسط الهيكل، سيفتح البعل كوى للسحب، فيعطي البعل صوته القدوس، عندما يردّد البعل كلامه، صوته القدوس، ترتجّ الأرض، والجبار تروّع، من بعيد، شرقي البحر، على متن الأرض، ترتجف الأعداء، أعداء البعل، فيهربون، إلى الوعور". ويجيب البعل عند سماعه هذا الكلام: "أيها الأعداء، لماذا ترتعدون أمام سهام غضبنا؟ ان عين البعل تسبق يده عند اختفاء رمح الأرز من يمينه".

في الخلاصة، تتقاطع الرواية التوراتية مع الرواية الأوغاريتية في كثير من التفاصيل، رغم اختلافهما الكبير في المعنى والجوهر. يلعب حيرام دورا مشابها للدور الذي يلعبه كاشر خاسس في بناء "بيت من الأرز". يتوجّه الحطابون إلى غابات لبنان ليحضروا خشب الأرز، ويتمّ بناء بيت البعل. يجلس "راكب السحب والغيوم" في قصره، "فلن يقيم أحد ملكاً على الأرض، ملكاً أو غير ملك"، ويرسل إنذارا "إلى موت، ابن الآلهة" بأن يلزم حدّه، ويدعوه "الى الاستتار في حفرته"، ويقول: "اني الوحيد الذي سيملك على الآلهة، فتستمرئ الآلهة، ويشبع الناس، لا بل جماهير الأرض أيضاً".
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها