السبت 2021/11/20

آخر تحديث: 14:37 (بيروت)

معارضات النيوليبرالية

السبت 2021/11/20
معارضات النيوليبرالية
السيستام (غيتي)
increase حجم الخط decrease
كيف من الممكن معارضة النيوليبرالية من دون الوقوع في الرجعية؟ هذا الاستفهام ينم عن كون هذه المعارضة، حيث يلتقي اليمين واليسار، قد تحمل الاثنين الى موضعٍ يمكن اختصار وصفه بفاقدٍ لوجهته. بمعنى انه يُزاوَل حيال النيوليبرالية، لكن من دون أن يحدد وجهته منها. الجهة، يساراً أو يميناً، لكن الوجهة أمر مختلف: هل تلك المعارضة هي معارضة للذهاب نحو ما بعد النيوليبرالية، أم أنها طريق إلى ما قبلها؟ استفهام ثان، يجيب عليه اليمين بطريقة واضحة، حاسمة، بمقولة "فلنرجع الى حين لم تكن هذه النيوليبرالية قد وجدت بعد، الماضي كان أجمل". على أن اليسار، في أجوبته، لا يتوقف عن التخبط، مرة، يردد تلك المقولة، ومرات ينتقل الى ما يشبه السكون التأملي، لكن، ومهما طال، لا يفضي الى شيء سوى الى انه كان ينم عن تجمد امام درب مسدود.

فعلياً، ذلك السكون سرعان ما يكسره طرحان حول معارضة النيوليبرالية من دون الرجوع الى ما قبلها. الطرح الاول يتعلق بأن هذه النيوليبرالية لا تجابه، انما تُجانب، بمعنى أن لا بد من الانسحاب من نظامها الى جوانبها: بعد "المتفرج الملتزم"، لا بد من الانتقال الى "الممثل المغادر". يمكن الاشارة هنا الى موقف تنفيذي، اذا صح التعبير، حيث يغادر هذا الممثل. فبعد انتمائه الى جماعة نيوليبرالية ما، بعد أن يتطبع بها، يبدأ بالانصراف منها، وعندها، يطور حساسية حيال فاعلها، اي يصير في وسعه ان ينتبه الى كون هذا او ذاك هو هذا الفاعل نتيجة "عاداته وتقاليده"، او نتيجة خطبته، او نتيجة منظوره الخ. في اثر ذلك، يحاول الممثل المغادر الا يكون على منواله، وهذا ما يحمل الى كون معارضته النيوليبرالية تساوي الا يكون كفاعلها، الا ينتمي الى جماعته.

هذا ما لا يعد صالحاً سوى لإنتاج نوع من الانعزال، الذي يدور فيه تحقيق مفارقة الفاعل النيوليبرالي من دون ان تفتح هذه المفارقة أي أفق، لا يكون مرتبطاً بمقولة معارضتها، "لسنا كالنيوليبراليين". المشكلة، ليس التفصيلية، انما الرئيسية، في ذلك الإنعزال، هو الكراهية التي تصوب ضد ذلك الفاعل الى درجة إلتهامها صاحبها. فما الحاجة الى الكراهية في معارضة موضوع كالنيوليبرالية؟!

لكن، ثمة طرح مقابل الطرح الانعزالي، ومفاده ان معارضة النيوليبرالية لا تقوم بمجانبتها، انما، وعلى العكس، بما يمكن تسميته الانغماس فيها، باعتباره سبيلاً الى النفاذ منها. يمكن صياغة شعار لهذا الطرح: لسنا نيوليبراليين بعد! ولكي نصير كذلك، لا بد من التطبع على نحوها اكثر فأكثر، لا بد من اكتسابها اكثر فاكثر، لا بد من العمل لتحقيقها اكثر فاكثر. اذ انها تنطوي على "قوة نزوعية" هائلة، او تفلت قوانا النزوعية هذه لكي تجعلنا نفارق كل ما سبقها، وحين نفعل ذلك، ونستمر فيه داخلها، ستأتي لحظة وننفذ منها. هي لحظة اكتمالها، الذي من المعلوم ان الانهيار هو عنوانها، بوصفه يكشف عن وجهها، وبوصفه يتممها، وعندها، لا تعود تشتغل. الانغماس، وان بلغ الانهيار، فهذا انتصار على النيوليبرالية، تماماً كما في وضع لبنان، حيث ظهرت مقولة حول الانهيار بما هو موقف ايجابي من ناحية انه يعيد "خلط الاوراق": ينبه الناس اين يعيشون وكيف. فالانهيار، وبعد الانغماس، قد يفضي الى وعي السابق عليه، وهذا الوعي سيؤدي الى تلافيه من جديد.

هل هناك طرح مختلف عن هذين الطرحين، بلا ان يؤدي الى الانعزالية، وبلا ان يؤدي الى عبادة الانهيار بما هو خلاصة النيوليبرالية؟ اشير الى نقطتين لا يصيبهما طرح المجانبة، مثلما لا يصيبهما طرح الانغماس. بداية، ان فاعل النيوليبرالية ليس كاملاً، بمعنى ان النيوليبرالي هذا، وحين يزاول الإنعزال عنه، وحين يُكره، فهذا يعني الإنعزال عما ليس نيوليبرالياً فيه، وكره ما يجعله الا يكون كذلك. في النتيجة، قطع العلاقة مع فاعل-جماعة النيوليبرالية هو "قطم" لأي علاقة مع ما ليس نيوليبراليا فيهما.

بالإضافة الى هذه النقطة، هناك نقطة ثانية، ترتبط بكون الاكثار من النيوليبرالية لا ينتج سوى نيوليبرالية. معادلة بسيطة طبعاً، والمنغمس في النيوليبرالية، المكثر منها، يبقى عليها، بمعنى أن فعله هذا لا يتيح له سوى ان يصل الى انهيارها بطريقة عاجلة. لكن هذا الوصول، بما هو بلوغ تمامها، لا يؤدي سوى الى الرجوع نحو نقطة انطلاقها: تطابق النهاية والبداية. لكن، رغم ان الطرحين لا يصيبان في نقطتين، فهما يسجلان منحى معيناً لمعارضة النيوليبرالية. فهذه المعارضة تتعلق بالصلة الاجتماعية، ليس مع النيوليبرالي تحديداً، على العكس، مع اي غير. كما ان هذه المعارضة لا يمكن ان تتحاشى النيوليبرالية، اي لا يمكن سوى ان تكون فيها لكي تتحقق. قد يكون من المفيد في هذا السياق الحديث عن جنازة لاستفهام "الخروج من السيستام"، بما هو فعل يتحقق بمغادرة النيوليبرالية بدلاً من المكوث فيها كسبيل الى النفاذ منها.

فلا خروج من "سيستام"، لا سيما ان هذا السيستام لا يعمل كمتواجد بل كغائب، انما من صلة اجتماعية تبرزه وتكاد تكون هي الصلة الاولى والاخيرة. معارضة النيوليبرالية هي معارضة هذه الصلة ايضاً، ومعارضتها لا تعني رفضها، انما خلق سواها. خلقها هذا يتطلب فضاءً-زمناً، يجمع مع غير المعني بها من اجل الشروع معه في خوض سيرورتها. الا ان هذا العمل قد يوقع في فخ معين، وهو الاعتقاد بأن خلق هذه الصلة هو وحده ما يخرج من النيوليبرالية. بعبارة اخرى، الاعتقاد أن درء النيوليبرالية في الصلة الاجتماعية كفيل بدرئها اينما كان: عودة الى وهم النضال في الميكروسياسة (السياسة الصغرى) كطريق مضمون لتغيير الماكروسياسة (السياسة الكبرى).

بدلاً من العودة الى هذا الوهم، ومعه مجمل طقوسه، لا بد من اعادة تشغيل التفكير والتنظيم في الماكروسياسة، حيث تصير المعارضة في صعيده معارضة حية، تأخذ بعين الاعتبار ان النيوليبرالية صلة. وبدلاً من ان تكتفي بخلق غيرها، تتنبه الى انها تطرد الغالبية الساحقة منها، بما هي طبقات شعبية. فإعادة تشغيل الماكروسياسة هو اخراج لكون تلك الطبقات هي الاكثر تعرضاً لتلك الصلة، والاكثر تحطماً في اثرها. جعل معارضة النيوليبرالية معارضة موجهة صوب ما بعدها، مشروطة بذلك الاخراج، وهذا لكي لا تبقى شبيه بطرد الارواح... او التلبس بها.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها