الثلاثاء 2021/11/02

آخر تحديث: 14:29 (بيروت)

"كثيب" دوني فيلنوف: رحلة في زمن انهيار الإمبراطوريات وقيامها

الثلاثاء 2021/11/02
increase حجم الخط decrease
هناك أفلام تُنتج وتُنجز مثل حملة عسكرية. تخصّص لها موازنات سخية، يحشَد من أجلها جيش من الممثلين والفنيين، تُدرس خرائط ساحة المعركة، توضع التكتيكات والاستراتيجيات، يعيَّن جنرال قادر على قيادة آلة الحرب، وتُحدَّد تواريخ ومواعيد نهائية. بالنظر إلى التكاليف، هناك خياران لا ثالث لهما: انتصار ساحق أو هزيمة مُذلّة. كونه محكماً وأنيقاً ومتماسكاً، من المؤكد أن "كثيب"(*) لن يخوض هذا الخطر الأخير وسيترك وراءه ذكرى الكارثة التي صوّرها ديفيد لينش في العام 1984 في فيلمٍ حمل الاسم ذاته. بيد أن ما لا يمكن العثور عليه في أي مكان من الفيلم الجديد، للمخرج الكندي دوني فيلنوف، هو المتعة المخاطرة، جرأة مَن يلقى بنفسه في المعركة من دون نتيجة مؤكدة، القرار المفاجئ لسائق يعتزم قلب القواعد ويشنّ هجوماً مباغتاً.

أظهر فيلنوف سابقاً أكتافه العريضة، بتصدّيه لسلسة معارك هوليوودية متوالية من الدرجة الأولى، من "سجناء" (2013) و"سيكاريو" (2015) و"وصول" (2016) إلى، بالطبع، "بليد رانر 2047" (2017)، حتى لو لم يجلب هذا الأخير لشركة سوني الإيرادات المتوقعة. ثم كانت "وارنر بروس" هي مَن راهنت عليه بـ165 مليون دولار (أكثر من مليون دولار لكل دقيقة من الفيلم!)، وعهدت إليه من قبل حتى إصدار الجزء الأول، إكمال أفلمة ما كان في أصله الأدبي سداسية روائية. ومع ذلك، لم تقم شركة كولومبيا-سوني بإزالة الرقائق تماماً من خزانة فيلنوف، فبمجرد الوفاء بهذا الالتزام الثاني لشركة باغز باني، سيتعيّن على المخرج الكيبيكي العودة إلى السيناريو الأسطوري لفيلم "كليوباترا"، الذي كادت نسخته السينمائية الأولى أن تغرق الشركة حين ظهرت  في العام 1963 بتوقيع المخرج جوزيف مانكيفيتش.

الفيلم المستند إلى رواية فرانك هيربرت الصادرة عام 1965، سيكون الأول من جزءين، ويغطّي النصف الأول منها، واعتماداً على نجاحه في حصد الإيرادات سيتحدّد مصير بقية التتمات السينمائية للسداسية الروائية التي دائماً ما يستشهد بها كأفضل روايات الخيال العلمي مبيعاً في العالم (بالمناسبة، حصلت دار "كلمات" الإماراتية على حقوق الترجمة العربية للملحمة، وصدر مؤخراً الجزء الأول منها بعنوان "كثيب" بترجمة نادر أسامة). تمثّل الرواية ركناً أساسياً في النوع الروائي الفانتازي-الاجتماعي، بجمعها بين أساطير قديمة وملاحم قروسطية، وسحر، وتصوّف، وعلم حيوانات أسطورية، وخروقات زمانية ومكانية، وأمثولات اجتماعية. وكذلك بتعمّقها في قضايا وموضوعات راهنة وتاريخية مثل الاستعمار، وحماية البيئة، والسقوط في قبضة القادة الكاريزميين، والجغرافيا السياسية المعقّدة للكوكب.


وتروي قصة فرانك هربرت، التي تبدأ في العام 10191 بعدما استوطن البشر كواكب لا حصر لها في أنحاء المجرَّة وصار لكل كوكب عائلة نبيلة تحكمه؛ مِحنَ عشيرة أتريدس، التي انتقل إليها حكم كوكب أرَّاكِس (أو كثيب) الصحراوي الذي حكمه آل هاركونن طيلة 80 عاماً، بأمر من الإمبراطور الپاديشاه شادام الرابع (السويدي ستيلان سكارسغارد). في صحراء لا نهاية لها وقيظ لا يُحتمل، يحصلون على "الاسپايس" (مزيج التوابل)، أغلى عناصر هذا الكون، وهي مادة ذات استخدام متناقض: بالإضافة إلى كونها مادة مهلوسة وتسبّب إدماناً شديداً لمتعاطيها، فهي الوقود الذي يسمح لكل شيء بالعمل، تطيل العمر وتفتح المدارك وتمنح بعض متناوليها قدرات تبصُّرية خاصة. من غير الاسپايس، يصبح السفر عبر الفضاء وبين الكواكب مستحيلاً وتنعزل المجتمعات البشرية كلٌ في كوكبه.

ومع الاسپايس تأتي قبائل بدوية تُدعى الفرمِن، أول مستوطني الكوكب القاحل الغني، والبارعون في أساليب البقاء في الصحراء، بثقافتهم الخاصة وتكنولوجياتهم الفريدة، وهم نسل جماعات رُحّل قديمة تمثّل بقايا شعب انتقل من عالم إلى آخر بحثاً عن الحرية وهرباً من اضطهاد واستعباد المغيرين الإمبراطوريين. ومثل كل الشعوب، لدى الفرمِن أساطير وميثيولوجيا تخصّهم، منها ما يحكي عن مُخلّص سيأتي لتحريرهم وإنارة طريقهم وتسييدهم على الكون الذي استعبدهم وأرهقهم بما لا يطيقوا. يعرفونه بأسماء عديدة، مثل "المهدي" و"لسان الغيب". حين يصل پول آترديس (تيموثي شالاميه)، ابن الدوق ليتو آتريدس، إلى كوكب كثيب، يرى فيه الفرمِن مخلِّصهم المنتظر.

تتحدّد الدراما الكبيرة بتاريخ قديم من العداء والكراهية بين آل آتريدس وآل هاركونن، خصومهم اللدودين. وتكتمل مع انكشاف المؤامرة الكبرى التي يمثلها نقل حكم الكوكب إليهم، بعدما بدأ الإمبراطور يخشى نفوذ الدوق ليتو آتريدس (أوسكار إيزاك)، لما يتمتَّع به من حظوة وزعامة بين العائلات النبيلة. الفخّ المميت يطلق في أعقابه أحداثاً درامية يبحث خلالها الوريث الشاب لعرش أبيه عن مصيره وحقيقته. في هذه العملية، يلعب السكان الأصليون لكوكب الصحراء، المنتظرين وصول مخلّصهم، دوراً مهماً. وبذلك، يتكشّف الفيلم "رحلة بطل" كلاسيكية يضطر فيها الشاب العشريني للتغلب على اختبارات الشجاعة والذكاء والنضج، بما فيها كسب ثقة الفرمن بقيادة ستيلغار (خافيير بارديم)، وتحديد موقعه في العالم، وأخذ زمام مصيره بيده؛ في خضم ما يتبدّى استكمالاً نموذجياً لرحلات أبطال فيلنوف السابقين، بتوقهم لإدراك المعنى في عالم فوضوي وسعيهم لفعل الشيء الصحيح في السياق الخاطئ. دراما غنية بالمكائد والعنف والاسقاطات، بانفعالات إغريقية تراجيدية يغذّيها تصميم إنتاجي ضخم وموسيقى تصويرية مدوية ومشاهد قتالية لافتة، تنتج مشهدية سينمائية فائقة على طراز ما يفعله كريستوفر نولان، للاسف، تمزج تيمات الكولونيالية والاستغلال الرأسمالي والاحتباس الحراري والفساد السياسي والتوق الديني للخلاص في ساعتين ونصف الساعة افتقدا كثيراً من الروح المجنونة للنصّ الأصلي، وإن تشابه كلا العملين في سذاجة تصوراتهما عن المستقبل ومآلات البشرية.

تجمع رواية هربرت عناصر من عصور وثقافات مختلفة، في نمط أشبه بدودة شريطية من التتابعات المتمّمة والقصص المؤسِّسة والقصص الجانبية، تشبه إلى حد كبير "حرب النجوم" أو "سيد الخواتم"، خليط دسم من الفلسفة المحاكية، والوكلاء الدينيين وأساطير "العصر الجديد"، مشوبة إيكولوجياً، ومفتونة سراً بسياسات القوة وأوهام دولة القائد الأعظم. عمل روائي متوقّع ومُسلّي لمحبّي الاسقاطات. العلاقة السياسية بين آل آتريدس والإمبراطور شادام، تذكّرنا بالأفلام "الرومانية". صحراء أرّاكِس، وسكانها البدو، وملبسهم، والكثير من أسماء الأماكن والشخصيات، وحقيقة أن هذه البقعة الجغرافية تضمّ ​​الوقود العالمي الثمين... تشير بشكل لا لبس فيه إلى المنطقة العربية (رغم أنه ليس هناك ممثل عربي واحد في الفيلم)، ما يسهّل الاستعارة المقصودة أخذاً في الاعتبار حقيقة كونها مطمعاً للرجل الأبيض. توفّر والدة بول، جيسيكا (ريبيكا فيرجسون)، العامل السحري: فهي، أيضاً، من البيني جيسيرِت، ساحرة. وبالطبع، سيسير بول في طريق البطل الكلاسيكي المقدّر له على خطى "لورانس العرب" الذي تمثّله هيربرت أثناء كتابته روايته. نجاح فيلنوف الكبير يتمثّل في هندسته للتصوّر البصري لهذا العالم صعب الترجمة، أكثر من مقدرته على خلق معادل سينمائي للرواية وتيماتها وعلاقات القوة بين شخصياتها، حتى ليبدو منجزه أشبه بتصميم لعبة متطورة ومبهرة لكن في الوقت نفسه خالية من الروح المفترض بها تمثّلها.

هناك قدر من الكرب يتملّك جميع أفراد آل آتريدس، لا يُعرف ما إذا كانت موجودة في الرواية الأصلية أم أنها خاصة بهذه الترجمة السينمائية التي شارك في كتابتها، من بين آخرين، المخضرم إريك روث (فورست غامب، والفيلم القادم لمارتن سكورسيزي). كما تملي الموضة الحالية، الإضاءة مظلمة للغاية. كلا العنصرين، مضافين إلى الاستبداد الكارثي للإمبراطور، يولّدان جواً مظلماً، لا تسود فيه روح المغامرة بل هالة الهلاك. ربما يعبّر هذا المزاج عن خوف "وارنر بروس" أو هوليوود أو ربما الغرب كله، من أن إمبراطوريتهم ستنهار إلى الأبد، مثل رمال في الصحراء. للمفارقة، أراد هيربرت بروايته خلق مستقبل بديل قوامه تعايش الأعراق والحضارات المختلفة بدلاً من فكرة سيادة العرق الأبيض، والآن تبدو هوليوود منقادة بخوفها من الفناء ونهاية العالم كما نعرفه، فيختفي العرب تماماً من الفيلم/المستقبل، فيما يؤذن بانهيار الغرب.

(*) يُعرض حالياً في الصالات.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها