الخميس 2021/11/18

آخر تحديث: 15:31 (بيروت)

"سبنسر" بابلو لارين.. الأميرة ديانا وقفصها الذهبي

الخميس 2021/11/18
increase حجم الخط decrease
من كانت ديانا سبنسر؟ زوجة، زوجة ابن، أم عازبة؟ مُحسِّنة عالم، أيقونة موضة، منبوذة؟ حتى بعد وفاتها الرهيبة، اعتقد الجميع أنه يحق لهم الحصول على قطعة من أميرة ويلز، لكن القليل منهم تعرَّف عليها حقاً. بفيلمه الجديد، "سبنسر"(*)، يقدّم المخرج التشيلياني بابلو لارين تفسيره لتلك الشخصية الأيقونية، كما فعل من قبل مع جاكي أوناسيس وبابلو نيرودا.

في مطبخ قصر بريطاني ثمة إشارة تحذيرية تقول "يمكنهم سماعك"'. ضمير الغائب يعود إلى العائلة الملكية، وهم يستمعون بالفعل، لذلك يجب على طاقم المطبخ إصدار أقل قدر ممكن من الضوضاء أثناء تحضيرهم - بدقة عسكرية - لكميات وفيرة من الطعام لأيام احتفالات عيد الميلاد الملكية. الأميرة ديانا (كريستين ستيوارت) مثقلة بنفس النير، مثلما سيتضح سريعاً في الفيلم: فـ"هم" يستمعون دائماً، وكل شيء يتم وزنه. في بعض الأحيان يكون الأمر حرفياً. مثلاً، عندما تصل ديانا إلى القصر (بعد بعض التأخير في مشهد افتتاحي تخريبي بشكل رائع)، تؤخذ من فورها إلى الميزان، تماماً مثل جميع الضيوف الآخرين. عند المغادرة، سيوزنون مرة أخرى ويجب عليهم اكتساب كيلوغرام واحد على الأقل لإثبات استمتاعهم بالسهرة. نكتة ملكية، استمرت لقرون، حتى صارت تقليداً.

هذا التقليد بالتحديد، هو الذي يثقل كاهل "أميرة الشعب" في رؤية لارين، الذي يمهّد لقصته في نصٍ افتتاحي على أنها "حكاية خيالية تستند إلى مأساة حقيقية". يصوّر ديانا في عطلة نهاية الأسبوع الذي قررت خلاله تطليق زوجها الأمير تشارلز، وبالتالي التخلّي عن فرصة أن تصبح ملكة يوما ما. هذا، قبل كل شيء، قطيعة مع التقاليد. تقول ديانا في الفيلم: "لا يوجد مستقبل هنا، والماضي والحاضر شيء واحد". كلما تألقت الملابس الملونة حول جسدها، كان عقلها أكثر قتامة. هذه ديانا، أميرة ويلز، وهي محبوسة في قفص ذهبي. لا يمكنها الخروج، ولا تستطيع قيادة سيارتها بنفسها، ولا يمكنها تحديد الملابس التي سترتديها. بلا مقدمات ولا وعود بسيرة شاملة، يُدخلنا الفيلم رأس الأميرة خلال احتفال ملكي خانق عشية عيد الميلاد والأيام الثلاثة التي تليه، بعد اكتشافها أن تشارلز كان يخونها منذ بداية زواجهما. هذه ليست سيرة ذاتية، وليست سرداً زمنياً لحياة ديانا، وليست تأريخاً: في عالم لارين الهادئ، صراع ديانا الداخلي المائج هو كل ما يدور حوله الأمر. يجب أن تكون قادراً على التعامل مع ذلك. استعد لانهيار عصبي لمدة ساعتين، دراسة أنيقة وحزينة حول السلطة والفساد وامتلاك المرء لقراره، بورتريه جميل لامرأة على حافة الهاوية، وكريستين ستيوارت في أفضل حالاتها. باكية وراقصة، حاشدة ومفرّقة، ضائعة ومقاتلة. وحرّة، بقدر ما أمكنها.


من السهل رسم خط يصل "سبنسر" بـ "جاكي"، فيلم لارين من العام 2016 عن جاكي أوناسيس عقب اغتيال زوجها الرئيس الأميركي السابق جون كينيدي. هناك، أيضاً، تدور أحداث الفيلم حول امرأة في أزمة، زوجة رئيس دولة تريد تشكيل مصيرها. لكن في الواقع، فالمقارنة مع فيلمه قبل الأخير، "إيما" (2019)، أكثر إقناعاً. لا يعني ذلك أن ديانا، مثل إيما، تتغلَّب على القصر والحياة الملكية بقاذفة لهب (على الرغم من أنه لا شك في رغبتها في ذلك)، أو اقتراب الإيقاع المشدود للفيلم الأخير من الفيلم السابق الذي تقوده إيقاعات ريغايتون عنيفة. يتركَّز التداخل والتشابه بشكل أساسي في ثيمة الأمومة، والذي يعد حافزاً لكل من إيما وديانا. في المقابلات، ذكر لارين أنه أراد إنجاز "سبنسر" في المقام الأول من أجل والدته، وهي من أشد المعجبين بـ "ليدي دي". بالنسبة لديانا، فالخوف من إبعاد أبنائها عنها هو سببٍ للبقاء؛ إلى حين. وقرارها بالمغادرة كان مدفوعاً جزئياً برغبتها في أن تكون قدوة حسنة لأولادها. المشاهد الحميمة بين كريستين ستيوارت (التي تحمل كل ثانية من الفيلم إلى أداء بطولي) والممثلين الشابّين اللذين يلعبان دور ويليام وهاري، هي الأكثر إنسانية في الفيلم.

هذه نقاط استراحة نادرة في عطلة نهاية أسبوع شاقة وعصيبة حيث تُطارد ديانا في الغالب، أو على الأقل تشعر بهذه الطريقة. ليس عبثاً أن يرسم لارين خطاً بين ديانا وطيور التَّدْرُج في الباحة الملكية في وقت مبكر من الفيلم، ثم حين يأتي مشهد لاحق تُصطاد فيه تلك الطيور يكون بمثابة نقطة تحول في الفيلم. في مقلب آخر، كما هو الحال في الكثير من أعماله الأخيرة، يلعب لارين بمهارة مع العناصر التي تميل نحو الرعب لتصوير الحالة الذهنية المهتزة والمطارَدة لشخصيته الرئيسية. أبرزها هي الرؤى التي تمتلكها ديانا عن آن بولين، سلف ديانا من القرن السادس عشر، والتي يتشابه مصيرها إلى حد كبير مع مصيرها، كما يتضح من القصيدة الكلاسيكية التي تظهر في الفيلم وتنطبق تماماً على المرأتين: "تزوجت من ملك إنكلترا / وقطع رأسها/ لأنه التقى بامرأة أخرى/ وأرادها أن تكون ملكة بدلاً منها".

يعرف المُشاهد جيداً كيف ستنتهي ديانا بعد بضع سنوات، لكن بصرف النظر عن كلمة "مأساة" في العنوان الافتتاحي، لا يقول لارين أي كلمة عنها. يقصر فيلمه على عطلة نهاية الأسبوع المحددة، ويلاصق بطلته المعذّبة وخيالها الهذياني المحموم في بحثها عن طريق للهروب وكسر الطوق، يعيد لها بعض الاعتبار والكرامة (كريستين ستيوارت لها فضل كبير في ذلك، وستكافأ في موسم الجوائز على دورها). مثل "جاكي"، وأيضاً "نيرودا"، وكلاهما من العام 2016، فإن "سبنسر" ليس بأي حال من الأحوال سيرة ذاتية كلاسيكية، إنما يلتقط بطلته في لحظة فارقة ليعاين قراراتها. في "نيرودا" استخدم شخصية الشاعر الكبير للتعمق في متاهة الهوية للأمة التشيلية، بينما سمح "جاكي" بدراسة أسطورة جاكي كينيدي تحت منظور معاصر، من خلاله ظهرت السيدة الأميركية الأولى كشهيدة لعصرها وشرطها الأنثوي.

في "سبنسر"، نغادر الصورة الجمعية للأميرة ديانا إلى صورة أقرب لامرأة ترسم، في نضالها اليائس للهروب من التقاليد وانتزاع حريتها الشخصية، مساراً ضرورياً للتمكين يتردد صداه بقوة في واقعنا الحالي. من هنا جاء العنوان، الذي يحمل اسمها قبل الزواج. يركّز لارين على تلك اللحظة التي استعادت فيها الحق في أن تكون هي نفسها، وبالتالي لم تعد زوجة ولي العهد، ولا "ليدي دي"، وبالطبع ليس "أميرة الشعب".

(*) يُعرض حالياً في الصالات.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها