الأربعاء 2021/11/17

آخر تحديث: 12:23 (بيروت)

زهور شارع المتنبي.. بين عارف الريس وغادة السمان

الأربعاء 2021/11/17
increase حجم الخط decrease
تشهد بيروت معرضًا استعاديًّا ضخمًا يختزل أبرز محطات مسيرة الفنان الراحل عارف الريس التي امتدت من العام 1948 إلى العام 2005. يُقام هذا المعرض في "غاليري صفير – زملر" في ضاحية الكرنتينا، ويحوي أربع زيتيات تعود إلى معرض "زهور شارع المتنبي" الذي أقيم في "غاليري كونتاكت" في بيروت، شتاء 1973، وفيه نقل الفنان بأسلوبه الخاص صوراً استوحاها من أشهر بيوت الدعارة في العاصمة اللبنانية.

تأتي اللوحة الأولى على شكل صورة شخصية لامرأة ذات ملامح قاسية تدخن سيجارة يتطاير منها دخان أبيض يملأ فضاء الخلفية الخمرية اللون، بما يشبه الغيوم. تمثّل اللوحة الثانية امرأة عارية في وضعية جانبية تلقي بظهرها على أريكة زرقاء، أمام رجل يطل برأسه الجانبي من الطرف الآخر للوحة، وذلك في قاعة تنفتح على قاعة أخرى تجلس فيها على طرف أريكة عسلية امرأةٌ ترتدي ثوباً شفافاً يكشف عن مجمل جسدها العاري. نصل الى اللوحة الثالثة، التي تمثل رجلاً أصلع، متقدّماً في العمر، يجلس على كرسي، يتطلع في اتجاه امرأة تحني رأسها كأنها تشيح بعينيها عن نظرته هرباً منها، ويظهر في الطرف الآخر رجل آخر له شاربان ونظارتان، يلاحق بطرف عينيه كذلك، هذه المرأة.

نصل إلى اللوحة الرابعة، وهي الأكبر حجماً، وتتميز بتأليف يجمع بين المشهد الداخلي والمشهد الخارجي. في الجزء الأسفل، يحضر جمع كبير من رجال بأعمار مختلفة احتشدوا كأنهم في مسيرة. تتقدم هذه المسيرة في اتجاه امرأة عارية تتمدد على فِراش أحمر، ملقية برأسها على وسادة صفراء. تحتل هذه العارية الجزء الأوسط من التأليف، مع عارية أخرى تشبهها إلى حد كبير، كأنها صورة أخرى لها. تجلس هذه العارية أرضاً وتتكوّم على ذاتها، على عكس نظيرتها الممددّة في مواجهتها على فراش وثير. يجري هذا المشهد على أرض بنفسجية تحدّها أربعة أعمدة تشكل أسساً لخمس قناطر رمادية. من خلف هذه الأعمدة، تظهر عارية عملاقة تتمدّد على أرض خضراء، كاشفة عن ظهرها ومؤخرتها. تحدّ هذه الأرض الخضراء سلسلة من الأبنية والعمارات تشكّل معالم مدينة تحتلّ القسم الأعلى من التأليف، وهذه المدينة هي بيروت.

كما أشرنا، تعود هذه الأعمال إلى معرض أقامه عارف الريس في نهاية شباط 1973 في "غاليري كونتاكت" التي افتتحها وضاح فارس في شارع الحمرا في تلك الحقبة. في تلك المناسبة، تحدث الرسام مطولاً إلى الناقد جوزيف طراب الذي وصفه بـ"الفنان والفيلسوف والكائن البشري الكامل"، وروى كيف اكتشف شارع المتنبي في سنوات المراهقة يوم كان طالباً في مدرسة عينطورة، خلال الرحلات التي اعتاد أحد أساتذته القيام بها إلى بيروت مع تلامذته. كان هذا الأستاذ يترك لتلامذته حرية التحرك في المدينة، وهكذا وجد عارف الريس نفسه في شارع المتنبي، للمرة الأولى، وهو في سن السادسة عشرة، حين اقتاده إليه زميلان له، أحدهما أضحى طياراً، والآخر قاضياً.

بخلاف هذين الزميلين، كان هو درزياً من عاليه، يهوى قراءة ميخائيل نعيمة وجبران خليل جبران، وشكّل الدخول إلى عالم شارع المتنبي صدمة كبيرة له. مع الأيام، كبر الطالب الشاب وسافر ودرس في أوروبا، وبات يرى في "الدعارة" شكلاً من أشكال النقاء يفضح العالم المبني على الرياء والدّجل. من هنا أطلق الفنان على المومسات اسم "الزهور"، ووصفهن بـ"عاملات الجسد"، واستغرق في الكلام عن تجربتهن وموقعهن في الحياة العامة.

الشارع الطويل الحزين
قبل عارف الريس، في منتصف تشرين الثاني 1969، نشرت غادة السمان في مجلة "الحوادث" تحقيقاً حمل عنوان "سوهو بيروت"، وجاء في مقدمة هذا التحقيق: "هذا آخر تحقيق كتبته غادة السمان قبل أن تتزوّج هذا الأسبوع. لقد ذهبت إلى الحياة الأخرى لليل بيروت. إلى سوهو البرج، وعلب الليل التيرسو، لتكتب عن الفرق بين سيدات المجتمع الفاضل، ونساء شوارع بيروت الخلفية". هكذا دخلت الأديبة الشابة "الشارع الطويل الحزين"، وكتبت في وصفه: "شارع المتنبي. وأقرأ: سكينة الشامية، ريا البيروتية، انطوانيت المصرية. والمرأة هنا سلعة، والدولة الكريمة تتولّى تنظيم الأمور. نساء مرغمات على البقاء في هذا المكان. ممنوع أن يغادرن في ضوء الشمس إلى أي مكان، إلّا إلى الفحص الطبي الأسبوعي حيث يقفن في طابور أين من إذلاله لهنّ طابور الأَسرى. عمل مرخّص له رسمياً ومحتقر رسمياً. المجتمع يصلح أخطاءه في تربية الشبان على الكبت بخطأ أكبر: هو إيجاد بؤرة بشرية تكون بمثابة ضحية تمتصّ هذا الكبت".

واصلت الكاتبة حديثها، وأضافت: "الثورة هنا آخر ما يمكن أن نتوقّعه من نساء مرصودات ليلاً نهاراً لإذلال لا ينتهي. كلهّن فريسات الانهيار العصبي. ليس بينهن من تستمع بعملها. مواطنات محرومات من أي حق نسائي أو مدني، حتى من حق الشكوى. الجمعيّات النسائية لسيّدات المجتمع المخملي لا تتنازل على الهبوط إلى هذا المستوى، بل وترفض بحث أمرهنّ من حيث المبدأ. ومن وقت إلى آخر، ترتفع أصوات بعض المثقفين والأساتذة الجامعيين في دراسات تطالب بإنصافهن وإعادة النظر من زاوية جديدة إلى الوضع غير الإنساني الذي تكرّسن له نهائيا. وتموت الصرخات في زحام انشغال القافلة برقص الجيرك وارتداء الأقنعة والزيف واللامبالاة والافتقار إلى الوعي الفكري والإنساني. وأنا اذ أخط هذه السطور الآن، لا أجهل أنها لن تكون سوى صرخة أخرى في واد".

في مقدمة هذا التحقيق، تطرّقت غادة السمان إلى أستاذ في الجامعة الأميركية قام بإعداد دراسة علمية موضوعية عن ساكنات شارع المتنبي، وقد ألقى هذا الأستاذ محاضرة حول هذا الموضوع، و"كادت تقوم مظاهرة بعد المحاضرة تنادي بإعدامه". هذا الأستاذ هو على الأرجح عالم الاجتماع والأكاديمي اللبناني سمير خلف الذي أعدّ بحثاً عن هذا الموضوع صدر بالإنكليزية عن "منشورات خياط" في بيروت في سنة 1965، وقد استعاد الياس خوري هذا البحث في مداخلة ألقيت في الاحتفال الذي أقيم في الجامعة الأميركية تكريماً لسمير خلف في نهاية أيار 2014. 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها