الأحد 2021/11/14

آخر تحديث: 11:51 (بيروت)

"أخلاقيّات" المؤسّسة الدينيّة: اذهبوا إلى القضاء المدنيّ…

الأحد 2021/11/14
"أخلاقيّات" المؤسّسة الدينيّة: اذهبوا إلى القضاء المدنيّ…
منصور لبكي المُدان في الفاتيكان ومحكمة فرنسية
increase حجم الخط decrease
وصلت قضيّة الخوري منصور لبكي، بعد طول أخذ وردّ، إلى خاتمتها الطبيعيّة، أي الحكم الذي أصدرته محكمة فرنسيّة مدنيّة بسجن الكاهن، المعتدي جنسيّاً على ثلاث فتيات على الأقلّ، مدّة خمسة عشر عاماً. وقبلها كانت الكنيسة الكاثوليكيّة، بواسطة محكمة دينيّة فاتيكانيّة، قد دانت المرتكب، لكن من دون تجريده من الكهنوت، فيما لا تزال المؤسّسة الدينيّة الرسميّة في لبنان، وتحديداً قيادة الكنيسة المارونيّة، تجنح إلى حمايته وتحييده، فضلاً عن امتناع الدولة اللبنانيّة عن تسليمه أو ملاحقته قضائيّاً. والثابت أنّ ضحيّتين من الضحايا تعرّضتا، بفعل الاعتداء عليهنّ، إلى ظواهر سيكولوجيّة مَرَضيّة كمحاولة الانتحار والإصابة بفقدان الشهيّة، فيما اتُّهمت الضحيّة الثالثة بالجنون. وقد مورست على عائلات الفتيات المعنيّات في لبنان ضغوط كبيرة، وذلك في سبيل لفلفة الموضوع والتراجع عن ملاحقة المسألة قانونيّاً.

إنّ قراءة دلالات هذه القضيّة تحيلنا إلى أمرين لا بدّ من التوقّف عندهما: أوّلاً، حيرة المؤسّسة الكنسيّة الرسميّة في التعاطي مع قضايا من هذا النوع. وثانياً، إحجامها، في كثير من الأحيان، عن إيصالها إلى خواتيمها. والخواتيم، هنا، هي القرارات الصريحة والواضحة والعلنيّة. فالتعامل العلنيّ والصريح مع استشراء الفضائح الجنسيّة في الجسم الكنسيّ كفيل بردّ بعض الاعتبار إلى الضحايا و"تعويض" شيء من خسارتهم. نقول حيرةً وإحجاماً عن ملاحقة الأمور حتّى النهاية، وفي هذا طبعاً محاولة لاستنباط أسباب تخفيفيّة للمؤسّسة الكنسيّة. والحقّ أنّ هذه كثيراً ما تسعى إلى "ضبضبة" الأمور، وتتقصّد إرسالها إلى دائرة النسيان، وتتلكّأ عمداً عن معالجتها. والسبب المباشر واضح، وقوامه أنّ الكنيسة، في وجهها المنظور، مؤسّسة ذات رسالة أخلاقيّة مستمدّة من الإنجيل. وأيّ ضرب لصورة هذه المؤسّسة ربّما يحدو الناس على فقدان الثقة بها وإدبارهم عنها.

هذا في ظاهر الأشياء. لكنّ ثمّة سبباً أكثر عمقاً هو ميل بعض المسؤولين في الكنيسة إلى تحويل مرجعيّتهم الأخلاقيّة إلى إيديولوجيا تبرّر سلطتهم على البشر، وصولاً إلى التسلّط والاستعباد الفعليّ. والأكيد أنّه لا يمكن تفسير تفشّي حالات التحرّش الجنسيّ في الكنائس، ما لم نأخذ هذه المُركّبة الأخيرة في الحسبان. فمتلازمة السلطة التي تتلبّس لبوس الإيديولوجيا الأخلاقيّة هي، بلا شكّ، أحد العوامل التي تفسّر ضعف الضحايا ومعطوبيّتهم وهشاشة آليّات الدفاع لديهم حيال محاولات المسّ بهم جنسيّاً. وإنّ افتضاح أمر جرائم التحرّش الجنسيّ في الكنائس غالباً ما يستتبع مساءلةً عميقةً للمنمّطات الإيديولوجيّة التي تعمل قيادات كنَسيّة على الترويج لها ترسيخاً لمنظومة السلطة، ما يفسّر الانقباض في التعاطي مع هذه الجرائم تعاطياً علنيّاً وحازماً.

أذكر أنّه عندما راحت قضيّة التحرّش الجنسيّ بعدد من القاصرين في دير من أديرة شمال لبنان تعصف بكنيسة الروم الأرثوذكس بدءاً من العام 2012. نصح بعضهم أهالي الضحايا بعدم التوجّه إلى القضاء المدنيّ لأنّ المعركة "خاسرة" لا محالة، لا سيّما في بلد مثل لبنان تهيمن عليه العقليّة الطائفيّة. لكنّ محامياً جريئاً علّق قائلاً إنّ المعركة لم تُخض بعد حتّى نعرف إذا كانت رابحةً أم خاسرة، إذ لا يمكن الجزم بالخسارة ما لم تحدث المعركة أوّلاً. فإذا خيضت المعركة وخسرناها، تيقنّا من أنّها خاسرة. ومن ثمّ، فإنّ خوض المعارك في القضاء المدنيّ ضدّ المؤسّسة الدينيّة في كلّ مرّة تنحرف فيها هذه المؤسّسة أخلاقيّاً، وتتعنّت، وترفض تنقيح ذاتها، إنّما يبدو اليوم ضروريّاً بإزاء الكمّ الهائل من الفضائح الأخلاقيّة التي تقضّ مضجع المؤسّسة الدينيّة من المحسوبيّة، مروراً بانعدام الشفافيّة في صرف المال واستخدام الأوقاف على غير نيّة موقفيها الأصليّين، أي العناية بالفقراء والمستضعفين في الأرض، وصولاً إلى جرائم التحرّش والاغتصاب.

والحقّ أنّ هذا المحامي الجريء كان على حقّ. فعوضاً من الاكتفاء بالانتقاد والثرثرة والأحاديث التي لا طائل لها خلف الأبواب الموصدة، لا مناص من خوض معارك ضغط حقيقيّة، لا وهميّة، كلّما اقتضى الأمر، حتّى ولو اقتضى الأمر اللجوء إلى القضاء… القضاء المدنيّ طبعاً.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها