الخميس 2021/11/11

آخر تحديث: 11:54 (بيروت)

تحقيق في بريد الإيليزيه

الخميس 2021/11/11
تحقيق في بريد الإيليزيه
جوليان فريتل وميشيل اوفيريلي
increase حجم الخط decrease
يفتتح كل من البوليتولوغ، جوليان فريتل والسوسيولوغ ميشيل اوفيريلي، كتابهما المعنون بـ"الكتابة إلى الرئيس" (la découverte) بخطبة ايمانويل ماكرون بعد انتشار الكورونا. في هذه الخطبة، التي لطالما اختُصرت في كونها تعلن "حالة الحرب" على الفيروس، ثمة ما أثار انتباه الكاتبين، وهو أن ماكرون يأتي على ذكر قصص، حول أناس تقاوم في زمن الكورونا. وقد أقدم على رواية قصصهم هذه بالتشديد على أسمائهم، كما لو أنه يعرف كلاً منهم شخصياً، أو كما لو أنه تتبع وقائع قصصهم تلك عن كثب. فماكرون ليس رئيساً بعيداً من الفرنسيين، إنما قريب منهم، إلى درجة نسجه علاقات شخصية معهم. هذا ما كان يريد أن يوحي به في خطبته، وهذا ما يعتمد سبيلاً معيناً لتحقيقه.

فعلياً، يضع الكاتبان تحقيقاً حول هذا السبيل، عما يمكن تسميته القرب الشخصي بين الرئيس والمواطنين. يعود الاثنان إلى الرئيس الأسبق نيكولا ساركوزي، الذي كان يردد أنه دوماً قلق من إمكان انحباسه في قصر الايليزيه، اي من إمكان انقطاعه عن المواطنين، كمصدر لشعبيته. لهذا، كان، وحين يذهب إلى ملاقاة الحشود هنا او هناك، يحب الارتماء بين الأذرع. في مقابلة معه، يردد أن زوجته كارلا بروني كانت تقول له ان يتوقف عن هذه العادة، لكنه لم يفعل، كونه يؤمن بأثر الجسد في العلاقة مع المواطنين. لكن جسدية ساركوزي، وبما هي التصاق للحظة بين الطرفين، تسد فراغاً فتحته مكاتب الاستشارات والاحصاءات والاستفتاءات. إذ أخذت هذه المكاتب على عاتقها مدّ قصر الايليزيه بمعلومات عن "أمزجة المواطنين"، لكن، في كل مرة، كما يقول فرنسوا هولاند وساركوزي، يبدو أنها لا تحرز ذلك. ما تحققه هذه المكاتب هو الإيهام بعلاقة بين الرئيس والمواطنين، والايهام بتتبع مراحلها أو تطوراتها أو تعرجاتها. الا انها غالبا ما تترك قصر الايليزيه بمفرده أمام مجهول اسمه "جمهور المواطنين"، بالأحرى آرائهم حول هذه القضية أو تلك، ما يزيد المسافة بينهم وبين الرئاسة، التي تصير، وفي النتيجة، معزولة، ومرذولة أيضاً.

بين الالتصاق الجسدي والبعد الاستفتائي، يطلق الكاتبان تحقيقهما حول سبيل القرب بين الايليزيه والمواطنين، وأول ما يفعلانه هو تحديده: علبة بريد القصر الرئاسي. فإلى هذه العلبة، تصل آلاف الرسائل التي كتبها مواطنون إلى الرئيس شخصياً، عن قضايا ومسائل عديدة، أكانت تتعلق بحيواتهم الخاصة، أو بعيشهم العام. في الواقع، في هذه الرسائل، ما يثير الانتباه هو أن أصحابها يؤمنون بكون أخبارهم ستصل إلى مسمع ما، وهم يرتكزون على التوجه إلى هذا المسمع على أساس أنه: بداية، متاح لهم لأنهم هم الذين شيدوه أو خلقوه عبر انتخابه، بالتالي، من واجبه تلقي ما يقولونه. في الوقت نفسه، هم يجدون في ذلك المسمع "الباب الاخير" الذي يطرقونه بعد انسداد الأفق أمامهم، ومن سمات هذا الباب أن خلفه صاحب قرار، سيهرع لإعانتهم. نتيجة ذلك، يمكن الإشارة إلى انهم، وبرسائلهم، يبرزون جانباً سياسياً، بالمعنى التنظيمي، للجمهورية الفرنسية، بما هي مختصرة في شخص، كما لو أنه ملك أو إمبراطور حتى.

لكن المسمع الرئاسي، لا يرد دوماً، وهذا، يتعلق بالعهد نفسه. ساركوزي ما كان يولي تلك الرسائل أي أهمية، مع أن المكتب المسؤول عن قراءتها كان يؤدي عمله، يطّلع عليها أو يسعى إلى ذلك. أما هولاند، فكان يطلع على بعضها، أو بعضها القليل بالتحديد. أما ماكرون، فقد بدا للكاتبين أنه يهب لهذه الرسائل أهمية أكثر من الرؤساء السابقين-وهذا هو سبيله إلى الاقتراب من "المزاج الشعبي" - بحيث يرد مكتبه على الكثير منها.



يبرع كل من فريتل واوفيريلي في دراسة تلك الرسائل، لا سيما من ناحية تأثر كتابتها بالخطبة السياسية لكل رئيس. ففي عهد ماكرون مثلاً، هناك وقع لعدد من عباراته التي تحضر في المكتوب اليه. إذ ينطلق هذا المواطن أو ذاك مما قاله ماكرون لكي يدلي برأيه حول موضوع بعينه، أو لكي يعرض له ما يطلبه منه. فالرسالة تبدو كأنها مكونة بالانطلاق من كون كاتبها قد تلقى خطبة ماكرون كرسالة خاصة، وقد وجهت اليه، ما يدفعه إلى الرد عليها. العلاقة الرسائلية مع ماكرون كانت تنطلق من كونه، وفي صورته المعممة، اكثر انفتاحا من سابقيه، نتيجة عمره وأدائه أمام الجمهور. لكن هذا لا يعني أن تلك العلاقة موضوعة في خدمة المواطنين، فردّه على رسائلهم غالباً ما يكون شكلياً، مثلما أن الرسائل سرعان ما تُدرج في سياق تجميع "الداتا" عن أمزجة أصحابها. ففي حين أنهم يكتبون للتوجه إلى ماكرون كصاحب قرار، تصير رسائلهم بمثابة معلومات عن شعبيته. أما النظر في شؤونهم، فيوضع جانباً.

يكتب فريتل واوفيرلي، على طريقة بيار بورديو، عن "البؤس" الذي يحمله عدد من تلك الرسائل، لكن هذا البؤس لا يجد مطرحه في غيرها، فما ان يُنقل من علبة البريد إلى المكتب للإطلاع عليه، حتى يضمحل، ولا يترك من مكاتيبه سوى معلومة أو اثنتين عن مزاج المواطنين في هذه اللحظة أو تلك حيال رئيسهم، والذي يبغي أن يعرف إن كانوا يحبونه أم لا. 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها