الجمعة 2021/10/08

آخر تحديث: 13:42 (بيروت)

اللوحة الفارغة.. من النقود

الجمعة 2021/10/08
increase حجم الخط decrease
كان يكفي أن يقوم الفنان الدنماركي، ينس هاينينغ، بفعلته غير المُنتظرة لتضجّ، إثر ذلك، وسائل الإعلام والتواصل الإجتماعي بالخبر، ويعلو الضجيج في كل مكان. تلقّى الرجل مبلغاً من الأوراق النقدية الدنماركية يوازي ما قيمته 70 ألف يورو، من أجل تنفيذ عمل فني، من طريق إلصاق الأوراق النقديّة على لوحة، بهدف عرضها لاحقاً ضمن مشروع فنّي. لكن الفنّان قرر قي النهاية أن يقدّم إطاراً يحوط لوحة بيضاء، واحتفظ لنفسه بالمبلغ الذي سُلّم له، وقال إنه "فن".

"يومان قبل إفتتاح المعرض، تلقينا رسالة من هاينينغ يقول فيها أنه لم يقم بالمهمة المتفق عليها معه"، أفاد مدير المعرض لاس أندرسون. بدلاً من ذلك، قال الفنّان أنه سيرسل عملاً آخر عنوانه: "خذ النقود وأهرب"، وعندما فتح موظفو المتحف الصندوق الذي من المفترض أن يحوي العمل المنتظر، الذي يشكّل في الواقع تكملة لإنجازات سابقة للفنان تعود إلى الماضي وتصب في الوجهة الفنية نفسها، وجدوا لوحة بيضاء خالية من النقود التي كان تلقّاها. لكن المتحف قرر في النهاية أن يعرض العملين (كان الإتفاق قد أبرم على تنفيذ لوحتين) بمناسبة معرض ذي علاقة بـ"العمل الإنتاجي الحديث". "إنها تقدّم مقاربة ساخرة وتدفع إلى التفكير حول الطريقة التي نقيّم العمل من خلالها"، أفاد مدير المعرض، بعما تقرر عرض اللوحة المرسلة من الفنان، لكنه أضاف:" سوف نتخّذ التدابير اللازمة من أجل أن يحترم جينس هانيننغ العقد الموقّع معه ويعيد لنا النقود".

تجدر الإشارة إلى أن الفنان الدنماركي، المولود العام 1965، كان يعمل على استعادة مفهوم أحد معارضه السابقة في أوسلو، الذي هدف عندها إلى بيع المنتجات التجارية بأسعار تننافسية. من ناحية أخرى، لا بد من ملاحظة أن الفكرة نفسها تكمن في أصل التركيب الذي أقيم مؤخراً في متحف ميغروس في زيورخ، إذ يبدو أن التسوق في مركز ذي طابع فني، في أيامنا هذه، هو أحدث مظاهر الأناقة. إلى ذلك، قام هذا الفنان المتمرّد، في وقت سابق، العام 1997، بتحويل إحدى صالات العرض في مدينة برلين إلى وكالة سفر Travel Agency. يقول هاينينغ إنه يرى نفسه "على هامش الهيكليات الاقتصادية والاجتماعية". ومن الواضح أنه يهدف، من خلال أعماله، إلى إعادة إحياء الآليات المتعلّقة بالإرث الذي تركه الفنان والمنظّر الفرنسي مارسيل دوشامب، فهو يطبّق مفهوم الـ"ready- made"، ليس على الأشياء، بل على المواقف، من خلال ربطها بـ"ضحايا الإقصاء"، كما وردت العبارة على لسان الفنان الدنماركي.

تصرُّف هاينينغ "المشبوه" يستجلب تفسيرات عديدة، تبدأ من الإقتناع الذاتي بفعلته، ولا تنتهي عند إثارة ضجة من وراء هذا التصرّف الإستفزازي. فإذا أخذنا في الإعتبار أن الأمر يستند إلى إقتناع بأن العمل، وعلى الشكل الذي أتى عليه، يمثل موقفاً شخصيّاً، فإن هذا القرار يرتبط، كما نخمّن، بموقف فنّي "يكرّم" اللون الأبيض من جهة، ويحتقر النقود من جهة أخرى، ولو أن هذا الحكم قد لا يكون صائباً من الناحية العملية، لأن الفنان احتفظ بالمبلغ لنفسه. حكاية اللون الأبيض لا بد من سردها هنا، فالإستطراد يبدو ضرورياً، ويستدعي العودة إلى التاريخ. كان كازيمير ماليفتش، الفنان الروسي الطليعي، رسم مربعاً أسود على خلفية بيضاء، ومربعاً آخر أحمر اللون على خلفية بيضاء أيضاً، وتساءل البعض لاحقاً، العام 1916: "بعد ذلك، ما العمل"، ملمّحين، من خلال ذلك، إلى موت الرسم الذي كان أعلنه ماليفتش، مواربة، من خلال مربعاته. بعد سنوات على ذلك، رسم ماليفتش مربعاً أبيض على خلفية بيضاء.

قال ماليفتش حينذاك: "إن الحقيقة في الفن ليست شيئاً آخر سوى أثر اللون في الحواس". حضِرنا هذا القول ونحن ننظر إلى الصورة التي نُشرت لتلك المرأة الواقفة أمام لوحة هاينينغ الفارغة، والرجل الذي ينحني لقراءة نشرة محاذية للعمل. تساءلنا عمّا يدور في خلدهما، وفي رؤوس زائري المعرض، وإذا ما كان عليهم رسم إبتسامة غير مرئية، أو الغرق في تساؤل محيّر حيال ما أراد الفنّان الدنماركي قوله من خلال عمله المربك.

من جهته، ذهب ماليفتش إلى أقصى حدود الإختزال حين رسم مربّعاً أسود وسط مربع أبيض (كان الفنّان من روّاد التجريد في بدايات القرن الماضي). فالإنطباع الذي يوّلده هذا التباين، الناتج من تقابل المربعين الأسود والأبيض، هو، بحسب رأيه، أساس لكل فن. لذا، فقد اعتبر هذه اللوحة بمثابة "نقطة الصفر" في التصوير، كأنما الغاية منها إيجاد مادة تفكير صافٍ قدرَ الإمكان، وجعلها موضوعاً للتأمل الخالص. ثم ذهب بعد ذلك، إلى تطرّف نظري في تقصّيه للقيم الرمزية للون الصافي، اللاموضوعي، فرسم مربّعاً أبيض على خلفية بيضاء، على أساس أن اللون الأبيض يمثل، بالنسبة إليه، لانهائية الكون، إذ يقول: "اخترقت الظل الأزرق للقيود الملونة، وخرجت إلى الأبيض، أبْحر ورائي زملائي الطيارين إلى الهاوية، لقد أقمت إشارات التفوق التي تقود إلى هذه الهاوية البيضاء الحرة، اللانهائية. وكأنّما "التفوّقية" (Suprematism – وهي العبارة التي ابتكرها ماليفتش لتصنيف نظريته الفنيّة) جاءت لتعبّر عن موقف بقدر ما تعبّر عن جمالية محددة، على اعتبار أن الشيء لا دلالة له بالنسبة إلى ذاته، وآراء الفكر النيّر لا قيمة لها، فالشعور هو الحاسم، وقال في هذا المجال: "إن على التصوير أن يحرر النفس من العالم المادي، كي يعمل على إدخال الكائن في الفضاء اللامتناهي".

قد يُخيّل لنا، للوهلة الأولى، أن هاينينغ طبّق هذه القاعدة. لكن، هل خطرت فعلاً أفكار من هذا النوع في رأسه؟ ربما. وقد تكون النقود، في حالته، كما العالم المادي المقيّد بالجاذبية الأرضية في نظر ماليفتش، هو الشيء الذي لا دلالة له في حد ذاته. لكننا لسنا واثقين تماماً من أنه ذهب إلى هذا البُعد النظري، إذ قد يكون موقفه عرضيّاً، لكنه، بالطبع، لا ينبع من فراغ، إذ إن أفكار هاينينغ العامة، التي يلعب التمرّد دوراً فيها، أكان هذا الدور كبيراً أم صغيراً، ستتأثر بأفكار دوشامب، كما ذكرنا، وكما أشار إلى ذلك بعض من عاين عمل هاينينغ. دوشامب الذي أطلق عليه أندريه بروتون صفة "الرجل الأذكى خلال هذا القرن"، وهو مبتكر الـready made، والذي حطّم القواعد الفنية والجمالية، ممّهداً الطريق للمظاهر الأكثر راديكالية في الفن منذ العام 1945، ما جعل أنصار الفن الأقلّي (مينيمال) والفن المفهومي يعترفون بمدى الأثر الذي خلّفه لديهم.

كان الفيلسوف الفرنسي، ميشال دي مونتاني، يتمنى أن يكون رسامًا. لكن، وبما أن الرسم رفض مشروعه، فقد رسم استحالة أن يصبح رسامًا. تبدأ مقالته "عن الصداقة" بدرس يتلقاه من خلال معاينته رساماً خلال عمله. أول عمل يقوم به الرسام هو خلق فراغ، وهو فراغ يسمح للصانع بملئه. هذا الفراغ الأصلي يتم إنتاجه بواسطة إطار، سواء أكان هذا الإطار حقيقياً أم إفتراضيّاً ووهميّاً. لكن، وفقاً للأسلوب السائد في ذلك الوقت، يملأ الرسام جزءاً من الفراغ بطريقة وسيطة بين اللوحة والإطار، وبالتالي يخلق فراغاً أساسياً من الدرجة الثانية، إذا جاز التعبير، والذي سيكون مكان اللوحة التي، في عدم تحديدها الشديد، هي مكان للغرابة، والخيال الحر، والنزوة. لكنها قد تبقي أيضاً فارغة، كما في حالة ينس هاينينغ.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها