الثلاثاء 2021/10/05

آخر تحديث: 18:16 (بيروت)

نظام أوكاشو

الثلاثاء 2021/10/05
نظام أوكاشو
من العرض الذي أكملته الفرقة في الشارع بعد قرار المنع
increase حجم الخط decrease

تجد قوى الأمن العام اللبناني، الوقت والطاقة والأدبيات البيروقراطية والقانونية، لإيقاف مسرحية. وذلك، في زمن فضائح "باندورا" (للمرة الثانية بعد حلقة أولى من "وثائق بنما")، وبعد أيام على عرض عسكري نفّذته مليشيا حزبية (ليس الجيش اللبناني ولا قوى الأمن الداخلي) في وسط شارع الحمراء (ولا نقول الضاحية)،.. ومن قلب أزمات المحروقات والمستشفيات والكهرباء والأدوية والمدارس والخبز، والغلاء والليرة والدولار والمصارف سارقة أموال الناس، والأسواق السوداء بالجُملة، ودموع نجيب ميقاتي على الابن الأكبر المهاجر وعلى السيادة اللبنانية المحزونة بالمازوت الإيراني، وفوق هذا كله شبح التهديد المحلّق بحرية فوق رأس القاضي طارق البيطار وتحقيقاته في انفجار 4 آب والنيترات "اللقيطة"...

ليست حتى مسرحية بالمعنى المتعارف عليه. بل حصيلة محترفات فنية شبابية جُمعت تحت عنوان "تنفيسة". ولا "تنفيس" صريحاً فيها، بل تلميح يقال مثله، بملايين أضعاف الصراحة والوضوح، يومياً، في الشارع والإعلام والشبكات الاجتماعية.

عادي،... ربما.
عادي، في حسابات الاستثناء اللبناني العميم، الباقي، والمتمدد.
عادي، لأن اللبنانيين اعتادوا اللامنطق واللامعقول، منطقاً ومِسطرة للحياة. هذه الحياة التي صارت فجأة هي اليوميات المتوقَّعات.
عادي، لأن العادي اللبناني هو ما يستمر في مفاجأتك، كل يوم. وبعد كل مرة تقول فيها لنفسك: الآن أقول إني رأيت كل شيء. يشدّك إليه من شَعرك، صاغراً، فاغراً فمك حتى يبان حلقُك المتقرّح بكلاٍم ما عاد لقوله معنىً سوى أنه حقيقة السِرٍّ الذائع الذي، حتى حين يصبح فضيحة، فإن شيئاً لا يتأتّى عن انكشافه كمستوعب قمامة كبير يقلبه محتجون في الشارع فتتناثر حمولته على مداخل البيوت وبين خطوات السائرين المنهكين.. ولا حلّ إلا بإغلاق النوافذ، وتفادي القاذورات بالسير في مسار سيارات يقودها مجانين.

مَن يتذكّر عندما كان حاكم مصرف لبنان يغضب من مدوّنين يشوهون "سُمعة" الليرة، ويدّعي عليهم، من كل عقله وقانونه؟ وعندما كان هذا المصرف أو ذاك يدّعي على مودع كتب في صفحته الفايسبوكية أنه لا دولارات في الفرع، فيدفع بأحد بلطجية "المؤسسة" لتهديد المواطن وبهدلته؟ وعندما تكاثر بلطجية مصرفي رئيس مجلس إدارة، على الصحافي محمد زبيب، لضربه وإرساله إلى المستشفى؟... كلنا يتذكّر. وما زلنا في دائرة الهراء نفسها.

هذه المرة، جُرحت مشاعر "العهد" من عرض طلابي يَرِد فيه ذِكرُ "الماريشال أوكاشو" الذي يتشبث بكرسيه حتى ساعة موته التي لا تحين، وهو أبو الإصلاح. ونظام أوكاشو يجعل الناس تصرخ في الشارع "انا مش حرامي.. أنا مظلوم". النظام نفسه الذي لا يريد فعل شيء في كارثة مصيرية أخطبوطية اللّكمات. أو لا يأبه. أو لا يستطيع. أو أن حساباته في مكان ثان طالما أن كراسيه غير مهددة فعلياً.

لكن الصورة مهمة.
فهذه ليست المرة الأولى التي يُمنع فيها فيلم أو مسرحية. مسرحية "بتقطع أو ما بتقطع" تناولت هذا الموضوع بالذات. نص فني يمرّره الرقيب، وآخر لا يمرّره، لماذا؟ لاعتبارات كثيرة، ليس الفن بينها – إن كان يجوز مَنعٌ بإسم الفن. لكنها اعتبارات جهاز أمني ما زال غير مفهوم كيف يبقى على رأس هذه الوظيفة، ونسمّي منها سريعاً: الأخلاق العامة، السخرية من جهاز أمني، النَّيل من علاقة مع دولة صديقة، المسّ بالمقدسات، إثارة النعرات... وبنظرة سريعة، يبدو أن "تنفيسة" التي لم يتسنّ لكثر مشاهدتها، وبصرف النظر عن مستوها الفني، إلا أنها جمعت كل هذه الأمجاد من أطرافها..

الصورة، أصابها رذاذ "التنفيس". الصورة، فوق خشبة مسرح، تزداد هيبة. والهيبة، إن أصابها البصاق التنفيسي، تحت إضاءة مسرحية، فاق انمساخُها المسخَ الأصل. من هنا يُفهم ما قاله الفنان طارق تميم، المشارك في "تنفيسة"، عن ضابط بنجوم على كتفيه، جاء يتفرج على العرض الأول، وقوفاً، حتى أنه لم يجلس في مقعد. وفي اليوم التالي، طُلب وقف العرض قبل ساعة ونصف الساعة من موعد رفع الستارة. وقال تميم لقناة "ام تي في" إن اتصالات كثيرة أجريت، وتبين أن القصة ليس منبعها الأمن العام، بل عميد في الجيش معروفة صبغته السياسية.

الوشايات الصغيرة أهم من الفضائح الكبيرة، وأكثر قدرة -بالقانون!- على تحريك أصنام لا تحركها حرب افترست البلد بلا مِلح، ولم تترك حجراً على حجر أو قانوناً تحت قوس.

ما الذي يخافه النظام/الأمن بالضبط؟ تجييش الرأي العام؟ ثورة كاملة بمئات آلاف البشر في الشارع، ومقالات، ومقدمات نارية للنشرات الإخبارية تسبق تقارير مشغولة بالنار والدم، لم تزعزع أياً من العروش الضاربة جذورها في الأرض البور. ما الذي يُجفلهم؟ الكشف؟ انكشافهم، ليس أمام اللبنانيين وحدهم، بل أمام الكوكب، صار عُلكة العالم، ولم يتغير الكثير، وما زال "المستشارون" يُقحَمون في الوفد المنتدب لمفاوضة صندوق النقد الدولي الذي يقول لهم في وجوههم كلامهم يُحرج الصخور الصماء.. وهُم، ديناصوراتنا الجميلة، لا تُرى على جباههم الأبية قطرة عرَق.

لعله ليس الخوف أو التوجس، بل الكرامة. هذه هي "كرامة السياسيين" التي تحدث عنها وزير الإعلام جورج قرداحي، مستشهداً بفرنسا "أمّ الحريات"، وإن انقطع عنده البث قبل أخبار الصفعات والبيض الفرنسي النيئ، في وجه رئيس حالي، ورئيس سابق يُحاكم أيضاً في المحاكم.

نعم، لا بد أنها كرامة التماسيح القائمة بأعمالها التمساحية على أكمل وجه، ويسوؤها كل هذا النكران والجحود. فالمومياءات حية ترزق، ودليلها هنا دامغ، وستزيدنا من الشِّعر بيتاً إن استطاع المبدعون وأصحاب المسارح والصالات تنفيذ وعيدهم المتحدّي بالذهاب فوراً إلى عرض أعمالهم من دون طلب أذونات أو التماس موافقات مسبقة على نصوصهم.

يفترض الآن أن يتقدّم أصحاب "تنفيسة" بطلب الحصول على إذن بالعرض، أسوة بكل مسرحية وفيلم وعمل فني يُقدّم في أي صالة. عشَم إبليس في الجنّة. وكي لا ننسى، هذا زمن جهنم وحراسها. فالفنان التهكميّ الوحيد المتاح الآن، والذي يسرح ويمرح في حقول الشأن العام والحريات، النقد والحق وحتى السخرية، هو من عيار كاتب بيان المنع، حين أخرج "تنفيسته" الخاصة في وجوه المحتجين فسمّاهم "مدّعي المعرفة الشاملة"... وبعدما نبّه إلى أن المخرج فلسطيني، شجب "محاولات التذاكي والخلط" بين الصلاحيات لتعمية الرأي العام بتجاوز القوانين "من خلال البطولات الوهمية"... فَشَر دون كيخوته، فَشَر هاملت، فَشَر غرندايزر.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها