الثلاثاء 2021/10/26

آخر تحديث: 18:16 (بيروت)

سيتيزن نصر الله

الثلاثاء 2021/10/26
سيتيزن نصر الله
هاربون خلال معركة الطيونة (غيتي)
increase حجم الخط decrease
في تاريخ تسنّم حسن نصر الله، قيادة "حزب الله"، قبل نحو ثلاثين عاماً، لعلها المرة الأولى التي تتعامل فيها فئة من اللبنانيين مع الرجل.. كمواطن. مسؤول من موقعه، تحت سقف القانون أسوة بمواطنيه، كل مواطنيه، يُدّعى عليه بشكوى جزائية أمام النيابة العامة التمييزية في بيروت. مواطن، يمكن، من حيث المبدأ على الأقل، مخاطبته ومحاسبته ومقاضاته، بلا هالته الدينية، والحزبية الإيديولوجية المسمّاة "مقاومة". تلك التي تُحرِّم الدنوّ منه بأي نقد أو مساءلة، ولو قانونية. الهالة التي لطالما أحالته إلى "سوبرمان"، الشخصية اللا-اعتبارية المتسامية فوق سائر الشخصيات الحقيقية وما يحيطها من ترهات الحقوق والواجبات. "سوبرمان"، البطل الخارق المحبوب/المُهاب/المُنزّه، بالضرورة والحتمية وأحياناً القَسر، لا ينال من قوته أحد. و"سوبرمان" الخليط، من موظف، مثله كثُر ويعيش بيننا، وفي الوقت نفسه صاروخ فتاك، لا نعرف له كوكباً، ولا المخبأ حيث يخلع نظارته ويرخي وشاحه الطويل ليطير فوق كل الناس وكل شيء متصدياً لأشرار وحده يعرفهم ويحدد هويتهم ويقرر طبيعة قتالهم... وليس على الباقين سوى الثقة والإيمان.

الشكوى التي تقدمت بها مجموعة من أهالي عين الرمانة عبر فريق محامين، تدّعي على "السيد حسن نصر الله، أمين عام حزب الله، وكل من يظهر التحقيق فاعلين أو مشتركين أو محرضين أو متدخلين أو مندسين أو متواطئين أو مرهبين لآخرالدرجات القانونية". والجرائم هي: "النيل من الوحدة الوطنية عن طريق حمل الأسلحة الحربية واعتماد الأعمال الإرهابية في أماكن محددة باعتماد استخدام تلك الأسلحة الحربية وإلحاق الضرر والإيذاء بالأشخاص والممتلكات".

هذه الشكوى، وبصرف النظر عن تعامل النيابة العامة معها، سواء باستدعاء المواطن حسن نصر الله أم لا، مآلها، في يوم بعيد ما، إلى علبة زجاجية في متحف. فنصُّها وحده يستحق الدراسة. لغته، مضمونه، دلالاته الأدبية والسياسية والتاريخية. فهي وثيقة الإثبات الوحيدة على وجود طبيعي لحسن نصر الله، ضمن المجتمع اللبناني، وهو ما لا ينطبق على بطاقة الهوية وقيد النفوس اللذين لا يعدُوان تسجيل قدومه إلى العالم، وهما صنيعه أهله. أما الشكوى الجزائية الأخيرة، فهي سجلّ مشترك، بينه وبين لبنانيين آخرين، بين أهالي عين الرمانة... وسيتيزن نصر الله.

في فيلم "سيتيزن كاين" (إخراج وتمثيل أورسون ويلز -1941)، نتعرف على المارد صاحب النفوذ الواسع، تشارلز فوستر كاين، رجلاً مسناً على فِراش الموت. ولا تلبث أن تتكشف، على امتداد الفيلم (المعتبر أفضل ما صُنع في تاريخ السينما قاطبة)، حياة هذه الشخصية التي امتلكت من المال والسلطة والبأس، مع المنافذ الإعلامية، ما يمكّنها من رسم مصائر الكثير من الشخصيات حولها، إضافة إلى تشكيل الرأي العام، بل والتلاعب به كما فعل في قضية الحرب الأميركية الإسبانية.



هو "المواطن كاين"، والعنوان في حد ذاته مُستهَلّ سلسلة من الرموز والدلالات المتغلغلة في كل مشهد. هو "المواطن"، لأنه بدأ شاباً على رأس امبراطوريته، أراد أن يرى نفسه في صورة متنكّب مسؤولية فضح الفاسدين والسياسيين، حتى حينما تضرّ الحقائق المتكشفة بمصالحه وتحالفاته. لكن، بمرور الوقت، وتوالي الأحداث الدرامية حيث يتضح لنا المزيد عن نشأته بعيداً من ذويه، نروح نتلمّس انغماس كاين في عالمه الداخلي الذي يزداد استحواذاً على انهمامه، وهو يستثمر طاقاته المادية والمعنوية فائقة القوة في مسارات تعطّشه للتسيّد بسلطة كاملة، وصولاً إلى تقادمه – مع عالَمه – معزولاً في قصره... وهو ما يحيل إلى الجزء الثاني من العنوان، أي "كاين"، وهي اللفظة نفسها بالانكليزية لإسم "قايين" الذي يروي "سفر التكوين" حكاية قتله لأخيه قبل أن ينتهي به الأمر منفياً في البرية إلى الأبد.

وعنوان الفيلم ليس سوى رأس جبل الجليد السياسي الذي يُعليه "سيتيزن كاين". فتتوقف الباحثة لورا مولفي عند مَشاهد "نيوز ريل" (التقرير الإخباري الذي كان يعرض في صالات السينما)، يظهر فيها تشارلز كاين بصحبة هتلر وديكتاتوريين آخرين، وهو يؤكد للجمهور بنبرة متعالية أنه لن تكون هناك حرب. انطلاقة "سيتيزن كاين" سبقت هجوم اليابان على "بيرل هاربور" بستة أشهر، ما أدى إلى دخول الولايات المتحدة في الحرب العالمية الثانية.

خطاب نصر الله الأخير عن "المئة ألف مقاتل"، واستعداده لاستخدام قوته العسكرية في حرب لمنع الحرب الأهلية اللبنانية بعدما أنجز جيشه نزهته في سوريا إلى جانب بشار الأسد، تلقاه جمهور الـ"نيوز ريل" المعاصر، بعيون مستديرة وأفواه فاغرة: استنكار وحماسة ودهشة أمام تلويح الرجل بقتال "مواطنيه" تحت راية حمايتهم من مشروع يقوّض كل هذا السّلم الذي ينعمون به.. هُم خصومه في لبوس "هابيل". سيتيزن نصر الله، يواجه اليوم شكوى قضائية في أحداث عين الرمانة التي، على فداحتها، لا تزن قطرة في بحر "حزب الله" منذ عقود. لكن رمزية فاقعة تطلّ برأسها هنا، من دون أي تحقق قانوني أو قضائي مرتجى على الأرض، بل الخوف كل الخوف على القضاء ككل ممثلاً في القاضي طارق البيطار خائضاً التحقيقات في انفجار مرفأ بيروت، وعلى ما تبقى من دولة رثّة أصلاً.

فرمزية أنها المرة الأولى التي تخاطب فيها الدولة اللبنانية، مواطنها حسن نصر الله، وبهذه الطريقة وفي هذه القضية دوناً عن ملفات بالأكوام... وأن الشكوى تاريخية، وأنها حبر على ورق، وأنها "الواقعية السحرية" في روايتنا المتوالية مجاناً بلا نهاية، وأن الانعزال والفناء خاتمةٌ لم يُعرف بعد بمَن ستحلّ،... فذلك كله ما يعيد التأكيد، بأكثر الأساليب إثارة وتشويقاً، أن أياً منّا لن ينعم بلقب مواطن في بلاد السيد سيتيزن.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها