الأحد 2021/10/24

آخر تحديث: 09:01 (بيروت)

معرض غادة الزغبي... اطلال العمارات "السائبة"

الأحد 2021/10/24
increase حجم الخط decrease

الموضوع الذي اختارته الفنانة غادة الزغبي، وقامت على أساسه، وإنطلاقاً منه، بتنفيذ مجموعة من الأعمال ذات الأحجام المختلفة، المعروضة حالياً لدى "غاليري جانين ربيز"، وذلك تحت عنوان"Pretty abandoned"، نقول إن هذا الموضوع مثيرٌ للإنتباه، وغير متوقّع، ولكن من الواضح أنه جاء نتيجة معاينة لواقع معيّن لا ينطبق، في اللحظة الحاضرة، على منطقة لبنانية واحدة، بل يمكن أن ينسحب على أمكنة عدة، وفي أكثر من مدينة.

أبنية في طور البناء، وأخرى شبه جاهزة، لكنها مهجورة لأسباب مجهولة، وإن كنّا نخمّن أن الضائقة الإقتصادية قد تكون سبباً رئيساً في ظهور المسألة، إضافة إلى أمورٍ أخرى لا نعرفها. على أن ما يتركه المشهد من انطباعات، لمن شاء أن يعكس أبعاده بلغة لا تمت بصلة إلى الإقتصاد والأعمال والأرقام، يصبح ذا معنى، ومدعاة لطرح أسئلة تتجاوز العادي واليومي. صحيح أن المرئي واحد، وهو جامد لا حراك فيه، وقد يشبه، في إحدى نواحيه، صخرة عملت فيها الطبيعة لقرون كثيرة، كتلك التي كان رسمها ريكاردو كافالو، على سبيل المثل. أما هنا فإن المنتج المتروك للشمس والريح والغبار هو من صنع الإنسان الذي أولاه اهتماماً، ذات يوم، ثم عافه أصحابه الأصليون، ليذهب الجهد المبذول أدراج الرياح. لو تخلى الإنسان عمن، أو عما، تدب فيه الحياة لكان الأمر مختلفا، ولقامت ضجة من هنا وهناك، كما يحدث عادة في المجتمعات "الراقية". لكن الأمر مختلف في الحالة التي أرادت الفنانة أن تعكس أبعادها في نتاج فنّي تصويري، من دون كلام، بل من خلال انطباعات يتولّى أمرها الشكل واللون.

الأبنية التي تراها الفنّانة لا حياة فيها، لكنها شُيدّت، ذات يوم، كليّاً أو جزئياً، من دون اكتمال بنيتها، وأحيانا بعناصر أوّلية لا تتعدّى أعمدة خرسانية، بأيادٍ يدب فيها العزم، وتوقفت حياتها إثر ذلك عند مرحلة معيّنة. إنشاءات صار بعضها أشبه بأطلال عمل فيها الدهر، ولم يُبقِ منها سوى شواهد وأنصبة مبعثرة. في هذا السياق، خطر في بالنا برنامج تبثه قناة ديسكفيري يحيط بمسائل من هذا النوع عنوانه: " "Abandoned Engineering. على أن هذا البرنامج الذي يكتسب قيمة وثائقية وتاريخية، أكثر منها معمارية، يهتم، على خلاف إنشاءات عاصمتنا ومدننا الأخرى، بعمارات عملاقة كانت، ذات يوم، مستعملة لأغراض شتى، ثم هُجرت ولم يتم هدمها، لتبقى شاهدة، من دون قصد بل بسبب الإهمال، على حوادث ماضية، وليصبح هجران بعضها لغزاً من الألغاز، تماماً كما يمكن القول عن مبانينا اليتيمة.

كما في معرض سابق لها كان إتخذ عنوان Regimes of the Personal ، تنتهج غادة الزغبي أسلوباً تشكيلياً لا يهمل الواقع، من حيث إرتباط الأعمال الواضح بالمرئي، لكنه يتمسّك به بالقدر الذي يسمح بإيصال الفكرة. وعلى هذا الأساس، يكتسب الرسم أهمية ومكانة، ويتطلّب معرفة بأصول المنظور وبتقنيّات أخرى، وهي مسألة لا نشك في أن الزغبي تمتلك مفاتيحها. وهي،  إذ تعمد إلى استخدام مفردات هذا الواقع، فمن أجل إيلاء الموضوع معنى شعورياً، يرتبط بالبعد المأسوي النسبي للموضوع، بعيداً من الإبهام. صحيح أن المنحى التعبيري يغلّف الأعمال، لكنه لا يلتزم التعبيرية في بعض طرقها المتطرّفة، التي سلكها التعبيريون الغربيون، والتي قد توغل عمداً في الفجاجة، وفي تحوير المرئي وتشويهه خدمة لأهداف "ثورية"، كما من أجل توجيه النقد القاسي لسياسات وممارسات مجتمعية لا تخدم الإنسان، بل تسعى إلى إستهلاك مقوّماته، وحتى تدمير حرّيته. لذا، يمكن القول إن أعمال الزغبي ترتبط بالواقع ضمن ما يسمّى "الموضوعيّة الجديدة"، معقودة على خضوعها المتأني والمدروس لتأثيرات "مدرسة لندن". (صاغ R.B. Kitaj مصطلح مدرسة لندن للإشارة إلى مجموعة من الفنانين التشكيليين الذين جمعهم معرض 1976 The Human Clay، في غاليري Hayward. ومن كبار الفنانين المرتبطين بفكرة مدرسة لندن، بالإضافة إلى كيتاج نفسه، يمكن أن نذكر مايكل أندروز وفرانك أورباخ وفرانسيس بيكون ولوسيان فرويد وديفيد هوكني وآخرين).


إلى ذلك، تحمل أعمال الزغبي بعداً رمزياً لا خلاف عليه. إذ أن العمارات "السائبة"، المرتسمة على القماشات، تتضمّن، بحسب إعتقادنا، اشارة إلى سيبان شامل يطاول البلد، ويبطش به، ما يدفعنا إلى الإعتقاد بأننا محكومون بالفشل. أما عبارة "نحن محكومون بالأمل" فهي، على لطافتها وأناقتها، قد تنتمي، في اللحظة الحاضرة، إلى عالم اليوتوبيا، وذلك إلى حين وزمن، نجهل متى نصل إليهما.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها