الخميس 2021/10/21

آخر تحديث: 12:51 (بيروت)

"ريش" عمر الزهيري المُحارَب.. حكاية طازجة وغريبة عن الأمومة

الخميس 2021/10/21
increase حجم الخط decrease
فيلم مصري متوّج بجائزة مرموقة من مهرجان سينمائي عريق، يُعرض للمرة الأولى في مهرجان محلي داخل مصر؛ حدثٌ يُفترض اقترانه بحفاوة الاستقبال وأزيز المديح. لكن هذا ليس ما حدث مع فيلم "ريش" للمخرج المصري عمر الزهيري، بعد عرضه في مهرجان الجونة السينمائي. فقد تعرض الفيلم لهجوم بدأ من ليلة العرض، قاده الممثل شريف منير الذي كان أول المنسحبين من عرض الفيلم اعتراضاً على "تصويره للأحياء الفقيرة في مصر بشكل غير دقيق وموذٍ"، واحتجاجاً على تجاهله مبادرات السيد الرئيس مثل "حياة كريمة" و"تكافل وكرامة" المعنية بمحاربة الفقر والعشوائيات والتي تكفل حياة كريمة للمصريين في ظل "الجمهورية الجديدة"، حسبما قال في اتصال هاتفي مع المذيع عمرو أديب في برنامجه التلفزيوني "الحكاية". ولئن استقبل هذا الأخير هجوم "الفنّان" - وزايد عليه - بهدوء نادر، فقد شنّ زميله أحمد موسى هجوماً أشدّ ضراوة على الفيلم وحتى على وزيرة الثقافة لتكريمها صنّاع الفيلم مؤخراً، متهما الفيلم بـ"الإساءة لمصر".


وهكذا، انتصب سيرك إعلامي وبرلماني لجدلٍ عديم القيمة، يستهلك الوقت الميت في نقاش شأن فنّي من خارج أُطُره وبغير معاييره في حدّها الأدنى. لم يراجع أحد من السادة الإعلاميين حيثية ووجاهة ما يقوله رافضو الفيلم ومتهموه، ولا تكلّم أحدهم بحديثٍ نقدي عن رؤية الفيلم الدرامية أو أسباب اختياراته الفنّية أو دقّة أطروحاته. فقط، محض هيجان وطني فائض ومزايدات كلامية آتية من أحشاء معارك قديمة تصوّرناها انتهت بغير رجعة. ومن النافل، التذكير بأن ما يسيء لمصر فعلاً هو الفنّ الردئ الذي يمثّله رافضون وممتعضون لم يقدّموا شيئاً يُذكر في تاريخهم "الفنّي" منذ ربع قرن تقريباً، ولا ينافسه في مقدار الأذى المسيء سوى الوجوه والأصوات الرديئة التي تملأ الشاشات المصرية ليل نهار بأكاذيب وافتراءات وتلفيقات ومغالطات واستيهامات، في سبيل الحفاظ على وجودها وزيادة أرصدتها لدى مَن يظنونه قائماً على حماية وصون كرامة وعَرض وشرف وسُمعة سيدة اسمها مصر.


بعيداً من تلك الحفرة المظلمة التي لا شيء فنيّاً فيها، يخلق الزهيري، وشريكه في الكتابة أحمد عامر، (من فكرة تبدو مستوحاة من فيلم "حطام أوديب" لوودي آلن)؛ فيلماً يستعصي على التصنيف: خليط عوالم متعددة وخلاصة خبرات مختلفة، خيال ساخر يعاكس واقعه، سوريالية بجذور واقعية، عبثية تحتقر ديمومتها، وبصقة كبيرة في وجه الوضع القائم. حكايته بسيطة ولافتة: أسرة فقيرة من صعيد مصر، مكونة من أبّ متسلّط ومهيمن وزوجة مستسلمة وثلاثة أطفال، تنقلب أوضاعها ذات ليلة بعد خدعة سحرية خلال عيد ميلاد الابن الأكبر تنتهي بتحوُّل الأبّ إلى دجاجة، من دون القدرة على إرجاعه بشرياً مرة أخرى. في سياق هشّ اقتصادياً، تجد ربّة المنزل (دميانة نصّار) نفسها مسؤولة عن إعالة أسرتها، لأن الدجاج لا يقبض راتباً، كما ستعرف في أول لقاءاتها بالبيروقراطية الراسخة وببيئة العمل المعادية للنساء.

من هنا تبدأ ما تبدو ملحمة خلاص وتمكين امرأة مغلوبة على أمرها، منسوجة بأمزجة وأساليب من كافكا وفيلليني ودي سيكا وبونويل ولينش وروي أندرسون ورأفت الميهي، تنتقل بخفّة بين الفانتازيا والواقعية، بين الضحك العالي والكآبة المغرقة، لا تفارق بؤس واقعها إلا لتسخر من تفريعاته، ولا تغرق في اقتراحاتها البصرية أو فكاهتها السريالية المبهجة، بما ينسيها التأكيد على ألم ومعاناة تلك المرأة المُساء فهمها والمهضوم حقّها والمنكوبة بعيشها معاناة مزدوجة، حين كان زوجها سليماً وحين تبدّلت به الحال. هنا، إدانة واضحة لا هوادة فيها، لكنها تفوّت على الفيلم في بعض الأحيان فرصته في الحفر عميقاً أو تزويد المأساة-الملهاة بانفجارات أكثر هذياناً وكوميديا أشدّ سواداً.

التباين بين واقعية "الميزانسين" المتقشفة وعبثية فرضية حكاية الفيلم، يؤسس عالماً محيّراً وكئيباً ورائعاً في آن. ورغم أن الفرضية مأخوذة بجدية كاملة ويشيّد عليها الفيلم بنائه، فمن المستحيل عدم الضحك على ردود الأفعال البونويلية (نسبة إلى لويس بونويل) التي يداوم على اقترافها الجميع تقريباً. مثلاً، يرفض صاحب العمل الاستمرار في دفع راتب الرجل-الدجاجة (لأنه ليس مفقوداً أو مريضاً، وإنما لم يحضر للعمل ببساطة)، بينما ينصح الأصدقاء والعائلة المرأة التعيسة بالبحث عن "أختصاصي"، والذي بعد دراسة حالتها نصحها بالتوقف عن أكل الدجاج والبيض "حتى يتحسّن الوضع".

عبر الابتداء من سرد بسيط لنضال أسرة فقيرة لتغطية نفقاتها وإبقاء رأسها فوق الماء، ثم الانتقال إلى نَفَس ساخر يرافق مشوار سعي امرأة لإطعام أطفالها، في عالم أبوي، وصولاً للانكشاف الأخير والجرئ في ختام الفيلم.. تُغلق الدائرة السردية بـ"فينالة" هانيكية (نسبة إلى ميشيل هانيكه) في وحشيتها وسطوتها، وبالتالي التأكيد على معنى تلك الأمثولة الأنثوية والعائلية والأمومية. في الأخير، تعرف الأم الطيبة دائماً ما هو الأفضل لأطفالها.

فيلم طازج وشديد البراعة يَعِد بمخرج كبير ومغاير. ولا عزاء للمتباكين على مصر وسُمعتها.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها