الأربعاء 2021/10/20

آخر تحديث: 11:51 (بيروت)

الفنون الحركية تغزو الشعر والقصة في القاهرة

الأربعاء 2021/10/20
increase حجم الخط decrease
تعكس الفنون الأدائية الحديثة، في بعض تمثّلاتها المبتكرة وتجلياتها المتطورة، تحريكًا مرنًا وتسييلًا طيّعًا لفنون وآداب عميقة وراسخة، على رأسها المسرح كعُلبة تقليدية، والموسيقى، والغناء، والعرائس، والأراجوز، وكذلك الفوتوغرافيا والتشكيل والإبداعات البصرية المتنوّعة. وقد شهدت السنوات القليلة الماضية بوضوح، تنامي هذا التلاقح المثمر، بين التعبير الحركي والجسدي من جهة، وألوان أدبية لم يكن مألوفًا اللعب فيها على هذا النحو، من جهة أخرى، منها على وجه الخصوص: الشعر، والسرد الروائي والقصصي.


لقد بات مألوفًا في هذه التوليفات الجديدة أن يكون ما يقدّمه الشاعر أو الراوي أو القارئ على المنصة، مصحوبًا بأبجديات كثيرة أخرى، من أجل تفجير ما وراء الكلمات اللغوية من معانٍ ودلالات وإسقاطات وأعماق إنسانية، فالقصيدة أو الحكاية تتضافر مع مكوّنات وعناصر أخرى متفاعلة داخل العمل المركّب، من قبيل التمثيل والحركة والإشارة والإيقاع والصورة وغيرها من مفردات النص الثريّ، الذي قد يشترك في تقديمه أكثر من فرد، وربما ينضم الجهور أيضًا إلى العرض بالانخراط في المشاركة.


ولعل ذلك الاجتراء على نسق الشعر الرصين المألوف قد وجد قبولًا أوسع في أعقاب فوز الأميركي بوب ديلان بجائزة نوبل للآداب في العام 2016، إذ وصفت الأكاديمية السويدية إبداعات ديلان الأدبية بأنها عميقة الأثر في الموسيقى المعاصرة، ما يحمل اعترافًا بأن ما يقدّمه من أغنيات منغّمة بات وجهًا من وجوه الشعر والموسيقى في آن، وبالتالي فالباب مفتوح أمام تحرر الشعر، وخروجه من شرنقته النخبوية، وقوقعته الانعزالية، وانفتاحه على فضاءات شعبوية قريبة وبسيطة من ذائقة المتلقي العادي.

بالتوازي مع ذلك، انطلقت القصيدة الأدائية، في خارج العالم العربي وفي داخله، إلى آفاق عليا خارج مدارات الجذب، أملًا في شحن الشعر بالدينامية والحيوية، وتبلورت تجارب طليعية للشعر الحركي والتمثيلي والكوميدي والمأساوي والراقص تحت مظلة فنون التعبير الجسدي والأدائي، التي تفسح المجال دائمًا للارتجال والتأليف والتفاعل مع الجمهور في أثناء العرض، لكسر الرتابة والخروج عن المسارات المتوقعة والأفكار الجاهزة. وارتبطت هذه الأعمال عادة بالأمكنة المفتوحة ومسارح الشارع، وليس بالقاعات المغلقة كالمعتاد في القراءات الشعرية.

ومن هذه التجارب، على سبيل المثال، أعمال جماعة "ميليشيا الثقافة" في العراق، التي تحتفي ببلاغة الشعر المقروء إلى جانب بلاغة الجسد، في عروض شعرية تمثيلية تجري في مناطق الأسلاك الشائكة والنيران والألغام والخراب لاستحضار بيئة مشابهة للتدمير الذي أفرزته الحرب. وكذلك أعمال الشاعر المغربي محمد العمراوي، الذي يقيم في فرنسا، وتتضمن قصائده الحركية مزيجًا من الشعر، بالعربية والفرنسية والأمازيغية، والغناء، والموسيقى، والتمثيل، والفيديو، والكادرات السينمائية، إلى جانب ما تحتويه من صيحات وإشارات وأدعية وابتهالات دينية وأذان الصلاة وتكبيراتها وكل ما هو متاح من روافد غير نمطية.

في هذا السياق، جاءت غالبية عروض مهرجان وسط البلد للفنون المعاصرة (دي-كاف) بالقاهرة (1-22 أكتوبر/تشرين الأول 2021)، التي قدّمتها فرق وجماعات مصرية وعربية وأجنبية، حيث ظهر فيها الشعر والسرد وقد اكتسبا أبعادًا جديدة وزوايا دقيقة من خلال الإرهاصات الأدائية بالغة الحساسية، وذابت الفواصل تمامًا بين القوالب والثيمات الإبداعية، فالشاعر قد يلعب دور الممثل أو الراقص أو المغنّي أو القاصّ، والراوي قد يغدو موسيقيًّا أو محرّك عرائس أو تشكيليًّا أو فوتوغرافيًّا، والعمل الدسم المركّب يقوم على أجزاء متشابكة وعلاقات متداخلة ورؤى متشعبة.

من هذه العروض، على سبيل المثال لا الحصر، "نغمات الجسد السوريالية"، من الدنمارك، وهو عرض حيّ لعرائس بحجم الإنسان، مع الشعر الصوتي، والموسيقى الإلكترونية، والرقص المعاصر. حيث تقف على المسرح عرائس في حجم الإنسان لترقص بمصاحبة القراءة الشعرية والأداء الغنائي والموسيقى الإلكترونية، وهو من تصميم وإخراج سفيند كريستنسن، بينما تولت تنفيذ الأداءات الشعرية والغنائية الصوتية والموسيقى الإلكترونية الفنانة الدنماركية راندي بونتوبيدان، وتميزت القصائد والموسيقى معًا بالنزوع إلى الارتجال، على غرار ما هو متّبع في الجاز. ويحيل العرض بعناصره المتنوعة إلى ذلك الصراع الشرس، بين كون الإنسان دمية مقيّدة، وكونه روحًا متمردة تأبى الانصياع.

وينسجم الشعري والجسدي والتصويري معًا في تجربة "تُنسى كأنك لم تكن" للفنانة المصرية هنا جمال، التي تستدعي قصيدة لمحمود درويش في سياق بصري، إذ تعيد الصور الفوتوغرافية واللقطات التعبيرية الجسدية للفنانة تأويل كلمات درويش الشعرية "أنا للطريق، هناك من تمشي خطاه على خطاي، ومَنْ سيسبقني إلى رؤياي، مَنْ سيقول شعرًا في مديح حدائق المنفى أمام البيت، حُرًّا من عبادة الأمس/ حُرًّا من كناياتي ومن لغتي، فأشهد أنني حر وحيّ حين أُنسى".

ويشكل العرض رحلة متعددة الأبعاد من المصالحة مع الذات والماضي، والتأرجح بين الواقع والأحلام، والمادي والمعنوي، والمسكوت عنه والكلمات التي يجري النطق بها. ويحوي العرض تساؤلات للفنانة الحائرة: هل نتحرر حقـًّا عندما نَنسى، أم عندما نُنسى؟ هل هناك سبيل واضح للمصالحة مع ما نتوق إليه؟ هل يمكن للماضي أن يعود؟ وتعتمد هنا جمال على الاقتراب البصري الذي يتقاطع مع الشعري وعلوم النفس والأنثروبولوجيا، لسبر أغوار العالم الداخلي للروح الإنسانية بكل تقلباتها من فوضى وتعقيدات وشاعرية وموسيقية.

وبعنوان "التي سكنت البيت قبلي"، يأتي العرض الشعري الموسيقي الأدائي باللغتين العربية والفرنسية، وهو سوري فرنسي، يقوم على قصائد الشاعرة السورية رشا عمران، وتتجسد فيه أصوات ثلاث نساء يُحوّلن كلمات عمران على خشبة المسرح إلى حالة فنية أكثر جرأة، فالشاعرة نفسها تُلقي أشعارها بالعربية، والممثلة السورية ناندا محمد تقدّم الأشعار بالفرنسية، أما الصوت الثالث فهو لفنانة الارتجال الفرنسية إيزابيل دوتوا، من خلال غنائها للشعر بطريقتها الخاصة، التي تشبه لغة داخل اللغة، ويدير الفريق المخرج المسرحي الفرنسي هنري جول جوليان.

ويعكس العرض توجّعات امرأة في منتصف العمر، تتذكر لحظات السعادة والأسى في حياة الوحدة التي تعيشها داخل شقة مهجورة بالمدينة، وتستمع لسرد مُحبِط ، يبدو أنه الصوت المتهكم لشبح امرأة أخرى، هي نزيلة سابقة بالمكان، تراقب حياة الراوية/الشاعرة، وتكشفها بنبرة ساخرة وعظية. وتحكي المواجهة الغريبة بين المرأتين قصة أزلية عن العشق والاغتراب والعزلة: "كلما بدأتُ بكتابة نصّ عن الحب، مدّت المرأة المستوحشة أصابعها على لوحة الكيبورد، وأبعدت أصابعي. المرأة المستوحشة، المتوحشة، التي تشبهني".


وفي الإطار ذاته، تلتقي عروض وتجارب أخرى متعددة، منها: "رحلة صوتية في القاهرة"، وهي رؤية سويسرية، فنية فلسفية، تهدف إلى اكتشاف ثراء شوارع العاصمة التاريخية، حيث يستقل الجمهور حافلة تجوب أبرز مناطق وسط البلد مع فنانين يحملون معهم معدات صوتية تسمح لهم بخلق مزيج من الأصوات الخاصة بالمدينة والبشر. وتتداخل في العرض، الذي تقدّمه  كل من إيزيس فهمي من مصر وبينوا رينودا من سويسرا، مساحات الصوت، فيستمع الجمهور في الحافلة للسرد الحكائي المختلط بأصوات العاصمة ومعدات الصوت التي تخلق نوعًا من الموسيقى، ما يقود في نهاية المطاف إلى الغوص في أعماق السيمفونية المتفردة للقاهرة.

ويحمل عرض "أكزاك" الفرنسي، الذي يقدمه كل من فطومي ولاموريكس، تناغمًا أدائيًّا، حيث تتجاور القصيدة التي تتغنى بالإيقاع والحركة بكل تعقيداتها، مع الأداء الجسدي لمجموعة من الراقصين، في إطار متعدد الأشكال متجاوز للحدود الجغرافية، يتسع كذلك للتأليف الموسيقي التجريبي للموسيقار نافار. أما عرض "ضوضاء"، من تشيلي، فيجمع بين الفنون الحية والتكنولوجيا السمعية البصرية، ويعيد من خلال السرد والموسيقى والرقص المعاصر قراءة المشاعر الإنسانية، ويسعى لاكتشاف مفهوم "الضوضاء" بشكل مختلف باعتبارها مكوّنًا أساسيًّا للتكنولوجيا والحياة العصرية. وتمزج فعالية "كيف تختفي تمامًا؟"، من المجر، تقنية الصوت المعزز بالسرد القصصي، من خلال تصوير رحلة سير في وسط البلد مصحوبة بقصة صوتية يستمع الجمهور لها، ليشترك بدوره في صناعة الأحداث ونسج التحولات الدرامية أثناء وجوده في هذه المساحة العامّة.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها