السبت 2021/10/02

آخر تحديث: 11:32 (بيروت)

شارع الحمرا صار على آخر انفاسه

السبت 2021/10/02
increase حجم الخط decrease
"ما عمري حسيت بالغربة في شارع الحمرا، إلا من كم سنة، لحظة غموض، ومع الحجر لكورونا ما في ناس بالشارع، احتل اليمام شارع الحمرا، واليمامة تملك أربع نوطات صوتية، واكتشفت، وأنا مشّاء، أن بيروت غابة من الشجر الأخضر اللون، الشجر الشيء الوحيد الحي، أمشي يومياً تحت نهر من الخضرة. الحياة مقابل الموت والخراب، كأن شارع الحمرا صار على آخر انفاسه، والأخطر هو الفراغ المقبل، وبعد كل انفجار يتحدثون عن نهايات وليس عن بداية" (الشاعر بول شاوول في حديث إذاعيّ).
 
أن يقول صاحب "بوصلة" الدم" و"نفاد الاحوال"، و"كشهر طويل من العشق" و"دفتر سيجارة" هذا الكلام عن شارع الحمرا أو رأس بيروت، فهذا يعني أن الأمور أصعب من أن تحتمل، ويصعب تقبلها... بول شاوول، "المديني العتيق"، الذي انشق عن جذوره العائلية في بداية السبعينات، وكسر جدران الطوائف والعزلات في زمن الثورات الطالبية، وأتى من منطقة سن الفيل(شرقي بيروت) الى شارع الحمرا التعددي، حيث عاش طوال سنوات الحرب، وقد أصابت قذيفة (في حرب التحرير العونية) مكتبته في البيت، واستمر فيه طوال سنوات السِّلم، شاهداً على تبدلات مسارحه ومقاهيه وسينماه وناسه، يشعر بالغربة الآن في شارعه ومكانه ومسقط أحلامه ومُلهم قلمه ويومياته... الشارع الذي كتب بول شاوول عن رصيفه ونسائه وواجهاته وزمانه، بات الآن يطرد عشاقه وسكانه، الذين يشعرون وكأنهم غرباء فيها.


الشعور بالغربة لا ينتاب بول شاوول وحده، كثيرون مثله... شخصياً، الشارع الذي أمضيت نصف عمري متنقلاً في نواحيه في النهارات والليالي، قارئاً في صحفه، مزجياً الوقت على رصيفه وفي مقاهيه وحاناته، عاشقاً الكتب بسببه، بدا لي في المرة الأخيرة حين زرته بعد انقطاع، كأنه شارع مفصول عن ماضيه وذاكرته، لم يعد واحة يشعر فيها المرء بفرديته في المدينة، بل التحق بمحيطه، أو أن محيطه غزاه... أشجار زينته تحولت أشبه بأشجار غابة غضة، أغصانها أحيانا تطاول الأرض، ربما على العابر أن ينحني ليكمل طريقه، واجهات المصارف تحولت من زجاجية كاشفة ولامعة، إلى حديدية صماء أشبه بدُشم حربية... لسبب ما شعرت أن رائحة براز الكلاب تلوث هواء المكان، كأن نمو الأشجار والكلاب علامتان على موت المدينة. في الحرب كانت الكلاب الشاردة والمسعورة تنتشر في وسط بيروت، وكذلك النباتات البرية تغطي الشوارع والأرصفة وحتى المباني العالية... كأن الخَضار الشارعي علامة من علامة الوحشة والتوحش والهجران والفقد والخواء، بل إشارة إلى الخوف واللاحياة، بالمعنى المديني... والقلق واللاحياة هما المسيطران على شارع الحمرا وبيروت في المدة الأخيرة، بدءاً بكورونا، ثم أتت الأزمة الاقتصادية وعهد "بيّ الكل" ومحوره، ليطيحوا كل شيء وأي أمل قريب. لم أفكر في الجلوس في مقهى (شارع المقاهي، أصبحت فيه المقاهي نادرة)، ولم أفكر أني سألتقي صديقاً هذه المرة، بدا لي أني احاول الهروب من الشارع الذي دخلته لسداد سند متأخر فحسب...

أتى كلام الشاعر بول شاوول الدقيق والشاعري، قبل أيام من العرض العسكري الذي قدمه الحزب السوري القومي الاجتماعي، في ذكرى "عملية الويمبي"، فأغلق كافّة مداخل الشارع، واستباح الطريق كما الرصيف لنشر عناصره الملثّمة والمسلّحة بكامل عتادهم العسكريّ. ومليشيا "القومي" في شارع الحمرا، تختصر ثقافة عامة في لبنان، حيث جماعات تستبيح أمكنة عامة وكأنها ملكها الشخصي... من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب، أمن متفلت ومظاهر مسلحة، عرض عسكري لحركة "أمل" جنوباً، وإطلاق قذائف ترحيباً بنفط "حزب الله" بقاعاً، اشتباك على الحطب شمالاً، سواطير في ملهى ليلي ساحلاً... رصاص يقتل حسناء في مقهى جبلاً، وهلمّ جرا...

وأتى كلام بول شاوول عن شارعه، قبل أيام من تقرير أعدته وكالة "أسوشيتد بريس" عن الشارع نفسه الذي فقد بريقه تدريجياً على مر السنوات الماضية، بعدما كان "روح بيروت" ومصدراً لتباهيها بنفسها بين العواصم العربية، وأصبحت تحاصره مظاهر الإهمال والأزمة الاقتصادية، فيما لم تعد مسارحه ومكتباته ومقاهيه الثقافية وحاناته تنبض بالحياة مثلما اعتادت في ما مضى.

وبحسب الوكالة، يقول كثيرون إن الشارع لم يعد آمنا، وفقد الليل بريقه المعتاد وبالكاد يمكن العثور على حانة تعج بالرواد والموسيقى في وقت متأخر، فيما انتشرت ظاهرة التسول عند كل ناصية شارع وأمام المتاجر، وأصبحت أكوام القمامة مكدسة أمام المباني والمتاجر بشكل منفر للمشاة العابرين وزوار الشارع الذي تغنى به شعراء ووصفوه ذات مرة بـ"شانزيليزيه الشرق"، أسوة بالشارع الباريسي الشهير برونقه وحيويته. وصارت العتمة شبه الشاملة تخيم على الشارع، فيما تنفث مولدات الطاقة الكهربائية دخان المازوت في كل أحيائه وأزقته لتزويد المتاجر والشركات والبيوت بالكهرباء... 

ربما يختصر شارع الحمرا ما قاله أحد الأصدقاء، بأن أبرز نتائج الأزمة الحالية في لبنان، يتجلى في ترييف المدن، ربما قتلها. فمدن ينخرها الغلاء ويخيم عليها الظلام وتغلق مؤسساتها ومعارضها ومطاعمها، ويتحول سرفيسها ومنقوشتها للمُقتدرين، ستموت حتماً وسيهجرها ناسها، أو سيبحثون عن أمكنة اخرى يستطيعون الاستمرار فيها أو المقاومة.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها