الثلاثاء 2021/10/19

آخر تحديث: 12:41 (بيروت)

من فلسطين وإليها: نتفليكس، فايسبوك، سالي روني، كأس العالم

الثلاثاء 2021/10/19
من فلسطين وإليها: نتفليكس، فايسبوك، سالي روني، كأس العالم
سالي روني الكاتبة الإيرلندية التي رفضت ترجمة روايتها إلى العبرية لدى دار نشر إسرائيلية لا تعارض انتهاكات الاحتلال (غيتي)
increase حجم الخط decrease
شهد الأسبوع الماضي أربع وقائع لافتة تستحق القراءة والوقوف على دلالاتها:
أولاً، في 12 من الشهر الحالي، رفضت الكاتبة الإيرلندية، سالي روني، ترجمة روايتها الأخيرة "أيها العالم الجميل! أين أنت؟" إلى العبرية من قِبَل دار نشر إسرائيلية، بسبب إحجام الأخيرة عن النأي بنفسها عن سياسات الفصل العنصري وانتهاكات الاحتلال الإسرائيلي بحق الشعب الفلسطيني وعدم دعمها لحقوق الشعب الفلسطيني التي نصّت عليها الأمم المتحدة.

ثانياً، بدأت منصة "نتفليكس"، منتصف الشهر، عرض ما مجموعه 32 فيلماً فلسطينياً تحت عنوان "قصص فلسطينية"، تضمّ عدداً من الأفلام المرشحة والحائزة على جوائز، سواء من إخراج فلسطينيين أو تدور حول قصص فلسطينية. خطوة تعدّ الأولى من نوعها عبر خدمة كبرى.

ثالثاً، أفادت تقارير صحافية بمقترح لرئيس الاتحاد الدولي لكرة القدم (فيفا) يقضي باستضافة إسرائيل مونديال 2030 بمشاركة "جيرانها العرب"، وعلى رأسها الإمارات العربية المتحدة، حسبما جاء في تغريدة نشرها الحساب الرسمي لرئيس وزراء إسرائيل في "تويتر".

رابعاً، في خطوة نادرة ومعاكسة للسياسات المتبعة، أقدمت إدارة "فايسبوك" على تعيين "هيئة خارجية للتحقيق في اتهامات بمحاربتها المحتوى المؤيد لفلسطين وإزالته". وكان نحو 200 من موظفي فايسبوك اتهموا إدارة الشركة وأنظمتها بإزالة المحتوى المؤيد لفلسطين بشكل غير عادل قبل العدوان الإسرائيلي الأخير على غزة، وفي أثنائه.

لا حاجة إلى شرح تفاصيل الوقائع الأربع، لبيان ما يجمعها. فالأمور كلها تبدأ وتفضي إلى فلسطين. فلسطين الحاضرة وراء قرار كاتبة شابة مشهورة تؤكد ثباتها على مبدئها في قضية يعتبرها البعض خاسرة ويتعامى عنها كثر من تقدميو "العالم الحرّ" الجميل النظيف. وهي حاضرة كذلك، وراء مبادرة منصة بث أميركية تحاول ترميم صورتها الموصومة بترويج البروباغندا الصهيونية، وزيادة قاعدة مشتركيها بعد اشتداد المنافسة بدخول لاعبين جدد إلى ساحة البث الرقمي. بحسابات مماثلة تقريباً يمكن قراءة خطوة شركة فايسبوك، التي تعاني هي الأخرى بعد حملة تسريبات ومراجعة داخلية وحملة مضادة لتحسين صورة منصة التواصل الأكبر والأغلى في العالم. ويأتي مقترح "فيفا" استكمالاً لمسلسل نيران الحب الملتهبة بين إسرائيل وطالبي وصالها من دول خليجية لا توفّر جهداً في إذكاء لهيب قصّة العشق الحرام تلك، وما زالت تواصل لهاثها غير المفهوم للنوم في أحضان العدو بحثاً عن ثمار محتملة، فيما أطنان من المحبة الدبقة يبيعها صهاينة الحكم للعرب (غير الفلسطينيين) لإحكام حصار القضية الفلسطينية وهدم حزام المقاطعة العربية لإسرائيل، إسرائيل التي لم تكن لتوجد إلا باجتثات هذا الشعب الفلسطيني من أرضه.

 
(فيلم "السلام عليك يا مريم" من إخراج باسل خليل)

صحيح أن خطوة كل من نتفليكس وفايسبوك، تعد سابقة لافتة في ما يخصّ تعاطي الكيانات الكبرى مع فلسطين، إلا أنه يظلّ من الخطورة بمكان الإسراف في تأويل تلك الإشارات في وجهات لا تتعدّى مداها الصحيح والممكن. الخطورة لا تقف عند تفاؤل غير مدعوم بوقائع وميزان قوى يعزّزانه، فيؤول خيبة، تُضاف إلى سجل الخيبات المديد لذلك الصراع المستفحل والمستمر، بل لتمتد لتطاول القدرة على سبر معاني تلك التحولات "الدولية" وحدودها، ومن ثمّ استثمارها بما يعود نفعاً على القضية الفلسطينية.

التحول الطارئ على سياسات فايسبوك ونتفليكس، مرتبط بما أنجزه الإعلام الفلسطيني الجديد خلال المواجهة التي بدأت في حي الشيخ جراح، وما تلاها، وتصاعد دوره في تشكيل رأي عام داعم ومتضامن، في إضافة نوعية لما أنجزته حركة مقاطعة إسرائيل على هذا الصعيد. لكن هذا التغيّر في حجم التضامن، أو سياسات الشركات، لا يعني أيضاً حتمية تجاوز الأمر حدود التعاطف في تلك المنصات إلى أرض الواقع. ومن الخطورة كذلك الارتكان إلى هذا الجانب العاطفي للمسألة، أي النظر للقضية الفلسطينية باعتبارها قضية إنسانية لا سياسية. لأن ضمير العالم لم يستيقظ، ولا شركات وادي السيليكون قررت فجأة التكفير عن خطاياها وإعطاء الصوت لضحايا آخر مآسي الاستعمار والتوحش الغربي.

حقيقة الأمر هي تكتيكات وجودية مفروضة بحكم الأمر الواقع. من المفيد لمنصة بث عالمية تعمل في السوق العربي، أن تخاطبه وتخطب ودّه بـ"محتوى" فلسطيني. ولا أكثر قدرة على ترميم المكانة، مثل تدارك خطأ سابق والوعد بتصحيحه، كما تفعل فايسبوك التي أعلنت نيّتها نشر نتائج تحقيقها علناً في العام المقبل. الوعود التصحيحية لا تضرّ في أوقات المدّ العالي وتراكم الأخطاء وانكشاف الأسرار، فيما تبقى الخوارزميات الغامضة والفعّالة كفيلة بتعمية وتمويه الحدود والمصطلحات بمثل كفاءة رطانات تنويرية غربية في شيطنة الضحية وضحينة المجرم، أو حتى لوغاريتمات عربية إنسانية تخلط الحقائق بالأباطيل لتبرير جرائم التطبيع وإبراء ذمّة إسرائيل من جرائمها.

في المقلب الآخر، يأتي موقف سالي روني للتذكير بأن مثل هذه القضايا العادلة لن تعدم أبداً أصواتاً تعلو بها تمثل الضمير الإنساني المنسي في عالمٍ يتجاهل آلام الآخرين ويستسهل لوم الضحايا البعيدين والمختلفين عنه، حتى يبدو مجرد التضامن عتبة لا يمكن تخطّيها. رغم ذلك، يبقى الطريق طويلاً وشاقاً. مثلاً، في ألمانيا المطبوعة بعقدة الإحساس بالذنب حيال إسرائيل، من جراء ماضي الهولوكوست، لم تحمل الصفحات الثقافية، حتى في الصحف اليسارية والتقدمية، سوى ردود ناقدة على قرار سالي روني. توالت على الروائية الإيرلندية اتهامات عديدة، بدءاً بالتهمة المعتادة في تلك الحالات، أي معاداة السامية، بالإضافة إلى اتهامها بازدواجية المعايير، في ضوء توفّر رواياتها باللغتين الصينية والروسية، وهي بلاد لا تحترم حقوق الإنسان. كما اعتبر بعض المعلّقين قرارها منافياً لجوهر الأدب ذاته، باعتباره قادراً على منح العالم إحساساً بالتماسك والنظام، في حين يمثّل رفضها ترجمة روايتها للعبرية "استبعاداً لمجموعة من القرّاء على أساس هويتهم الوطنية".

كما في التبريرات الحقيرة للمجازر الإسرائيلية المتراكمة أو الدفاعات المرتبكة عن حقوق الفلسطينين، يغلّف النقد الجماعي لفعل بسيط (مثل قرار روني) طبقات متينة من عدم الفهم والخداع والانخداع بكلمات جميلة ونبيلة حول التعايش السلمي وتلاقي الأفكار ووعود الكتابة؛ من دون إجهاد العقل بتفنيد أسباب القرار أو البحث وراء المشكلة الأساسية النابع منها. قرار روني بسيط: لن أنشر روايتي الثالثة في إسرائيل بواسطة دار نشر لا تعلن بوضوح رفضها لسياسات الإحلال الإسرائيلية. حقوق الترجمة للعبرية ما زالت متاحة، وبالتأكيد ستترجم الرواية للعبرية، لكن وفقاً لاتفاق يرضي ضمير الكاتبة الماركسية الناشطة في الدفاع عن حقوق الفلسطينين وحركة مقاطعة إسرائيل (BDS) الهادفة إلى تغيير سياسة إسرائيل تجاه الفلسطينيين، من خلال تشجيع المقاطعة ومصادرة الأسهم والمطالبة بفرض العقوبات على الشركات الإسرائيلية والدولية العاملة على أراضٍ فلسطينية محتلة.


كل ما مرّ يفيد بأن الرياح، ربما للمرة الأولى منذ زمن، تجري بما تشتهيه سفن الفلسطينيين، غير أن هذا منوط بقدرة هؤلاء (والمؤمنين بقضيتهم) على توظيف تلك الرياح لخدمة سفينتهم، وقبل كلّ شيء من تعيين حدّ أدنى من الوفاق حيال وجهة هذه السفينة ومقاصدها. سبق لأكثرهم نعي القضية الفلسطينية بعد شيوع ما عُرف بـ"صفقة القرن" وما تبعه من "اتفاقيات سلام إبراهيمية"، بيد أن الشواهد، كما السوية الجيوسياسية المعقّدة لهذه المنطقة، تفيد باستحالة إنجاح أي مقاربة سياسية شاملة للشرق الأوسط يتموضع الفلسطينيون خارجها.

من هنا تبرز أهمية استثمار الفرص والبناء عليها. فمجموعة "قصص فلسطينية" تزاوج الفنّ بالقضية، وتؤكد مقاومتها بسينما مشغولة بالفنيات أكثر من انغماسها في المقاومة الشعاراتية.. وهذا أبرَك وأجدى من جبال وفيوض ثورية مناسباتية وإقصائية يتخفّى جمودها الفكري ومحدودية تأثيرها وراء كلمات عتيقة لا يهضمها ولا يسمعها سوى العرب أنفسهم. وهذا، بالمناسبة، جانب أساسي من مأساتنا، أننا، للأسف، غالباً ما نتحدث إلى بعضنا البعض فقط. ثورية معاصرة وناضجة تنتج من اشتغال على تطوير الخطاب السياسي وترجمته فنياً. تخاطب الآخر البعيد المختلف بلغة موائمة لفهمه، بحثاً عن صيغة مشتركة للتفاوض بشأن مختلف القضايا، ولبيان عنصرية ووحشية الخطاب الصهيوني المرتبط بالاستعمار والإبادة أكثر من قرابته لقيم التعايش والتسامح وغيرها من مغالطات وأكاذيب تتجاوز كل منطق ويروَّج لها بكثافة تحت ستار خطابات إنسانية فارغة.

السينما، كما مواقع التواصل الاجتماعي، مساحة لإظهار فلسطين خارج صورها النمطية والإخبارية، وأبعد من إطارات التوجهات السياسية والتحزّبات الأيديولوجية. اقتناص المساحات ضروري للفت الانتباه وإنعاش الذاكرة بعدالة القضية الفلسطينية، وبوجود فلسطين نفسها، فوجود ثقافة يُبقي الدلالة على أن لهذه الأرض صاحباً أقدَمَ من كلّ وجود صهيوني عليها. وهي أيضاً ساحات متجددة ومفتوحة للصراع، تكشف وتذكّر بقوام الصهيونية وأعوانها عالمياً وإقليمياً، بما هي إبادة للوجود الفلسطيني، سواء بمحوه أو تبديله أو إنكار وجوده من الأساس. الحضور الفلسطيني والتأكيد عليه واقتناص مساحاته وتوسيعها، أساسي ولازم للإبقاء على فلسطينية القضية الفلسطينية وخلق مستقبل بديل وتجذيره في أوقات المسمّيات المراوغة والأوضاع المقلوبة و"الأشقاء" المتلوّنين وسوء الفهم المركّب.

يقول المخرج الفلسطيني أمين نايفة، والذي يُعرض له فيلم قصير بعنوان "العبور" ضمن مجموعة نتفليكس: "لهذا نصنع الأفلام، لأننا نريد لقصصنا أن تسافر وأن يعرفنا الناس. الآن عندما تكتب فلسطين في مربع البحث في نتفليكس، ستظهر لك عناوين عديدة ومختلفة للمشاهدة. قبل ذلك، عندما كنت أكتب فلسطين، كانت تظهر لي عناوين إسرائيلية".
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها