الثلاثاء 2021/10/19

آخر تحديث: 17:58 (بيروت)

حزب الله يحب المسيحيين..كفلسطين بلا الفلسطينيين

الثلاثاء 2021/10/19
حزب الله يحب المسيحيين..كفلسطين بلا الفلسطينيين
increase حجم الخط decrease
صُور حسن نصر الله. مقاطع فيديو مُقتطفة من خطابه، ليل الإثنين، مُمَوسِقةً "اقعدوا عاقلين"، ومُلحِّنةً "تأدبوا" مع تأثير الصدى. صُور وفيديوهات لقتال حزب الله في سوريا، حيث هُجّر من هُجّر وقُتل من قُتل، كُتلاً بشرية بالأكوام والقوافل. لقطات لسمير جعجع، كما هو متوقع، كاريكاتورية مشوّهة. وقاسم سليماني، وقتلى معركة الطيونة... هذا كله عادي في سياق بروباغندا الحزب معروفة الملامح منذ سنوات. لكن صورتين بدتا اليوم لافتتين في "تويتر" حزب الله، تقولان جديداً تحت هاشتاغ #أمرنا_أمر_القيادة، الموحّد والمنظّم، كما الحزب ومقاتليه بعددهم الخرافي: 100 ألف مقاتل.

الصورة الأولى هي عملياً مجموعة صُور لمقاتلين من "حزب الله" يمسحون الغبار عن تماثيل للسيدة العذراء وأيقونات أخرى في إحدى الكنائس السورية، بعد معارك "تحرير" مناطق سورية من "النصرة". يضاف إليها فيديو لراهبة برتغالية تدمع عيناها فيما تصف عناصر حزب الله الرائعين. ومقاطع لرهبان من مختلف الجنسيات في دير مار يعقوب المقطع، ببلدة قارة السورية (2013)، يسبّحون بحَمد جنود الحزب مخلّصيهم من "التكفيريين".


تُتداول هذه الصور، اصطفافاً خلف ما جاء في خطاب نصر الله الأخير عن أن الحزب ليس عدو المسيحيين، بل "القوات اللبنانية" وسمير جعجع الذي يريد حرباً أهلية ليحشر المسيحيين في كانتون يسيطر عليه.

هذه تراكيب من "الصور المسيحية" تتطور في الثقافة البصرية للحزب، كخطّ دعائي قائم بذاته، أسوة بسلسلة "ما بعد بعد حيفا" و"الانتصارات الدائمة" و"الإسرائيليين مرتعدي الفرائص دوماً وأبداً". يدعم اجتراحها كنوعٍ مبتكر، انُتشار فيديوهات كثيرة مؤخراً، لرجال دين وراهبات ومسؤولين محليين ومديري مؤسسات رعائية مسيحية، يشكرون "حزب الله" وإيران على المازوت الإيراني. فالدعاية تقول: نحن لسنا أعداء المسيحي الذي يلهج بأفضالنا، نحن الحنوّ على التمثال والصورة في كنيسة، والذات المسيحية الوحيدة التي نحمي (كأهل ذمّة ومتلقّي عطايا) ونُصادِق (كحليف مضبوط) هي اللا-ذات.. في بلد الهويات والسياسات والأحزاب الطائفية المفترض أن تعيش سوية. 

أما الصورة الثانية في مانيفستو #أمرنا_أمر_القيادة، فهي لقطة شاشة لعنوان نشر في جريدة "الأخبار" بتاريخ 6 حزيران 2015: "كشافة المهدي في ثلاثينيتها: 76 ألف منتسب". هنا شظايا القنبلة الصوتية التي فجّرها نصر الله في منتصف خطابه الأخير عن امتلاك الحزب 100 ألف مقاتل.


قال الرجل بوضوح إن هذا الرقم لا يتضمن الجمهور، ولا حركة "أمل" وبقية الحلفاء، ولا "الأنصار والمؤيدين والمحبين"، ولا الطلاب ولا المهن الحرة ولا النقابات ولا التنظيمات النسائية ولا الكشافة. بل هو "الهيكل العسكري، الرجال، وفقط اللبنانيين منذ أكثر من مئة سنة وليس منذ عشر سنوات، المدربين والمسلحين الذين "لو أشير لهم أن يحملوا على الجبال لأزالوها". ورغم ذلك، فإن 76 ألف منتسب لـ"كشافة المهدي" في 2015، وربما صاروا اليوم 100 ألف أو أكثر، هم مقولة شارع "حزب الله" اليوم بأن الزعيم لا يبالغ ولا يناور. وإن استثنى هو الكشافة، فالكشافة (بالفئة العمرية من 6 إلى 18 سنة) لا يستثنون أنفسهم، أو لا يستثنيهم أهلوهم من هذا الجيش الجرار. ولعله الاستعراض الساخر على طريقة: إن كانت كشافتنا بهذا العدد، فما بالكم بمقاتلينا؟!

الصورتان، المسيحية والكشفية، لافتتان، لا لعفويتهما أو خروجهما على النسق الدعائي المعهود. فلا تغريد خارج السرب هنا، وكله تحت "الانضباط"، حتى ليصعب استبيان أي أصوات بأي درجة من المغايَرة خارج خطاب الجيوش الالكترونية والمحازبين. لكن للصورتين رمزية تضاف الآن إلى إيديولوجيا الرقم 100 ألف.

بات المسيحيون في هذا الخطاب كالفلسطينيين. فكما هناك فلسطين القضية الكبرى، المحبوبة أرضاً ومجسّماتٍ ومواقعَ، فلسطين القدس كصورة جوية، والمسجد الأقصى كمَعلَم، بلا فلسطينيين في مخيمي صبرا وشاتيلا وسواهما في لبنان، وبلا فلسطينيين في مخيم اليرموك السوري... صار المسيحيون الآن أيقونات وتماثيل ورهباناً رمزيين (من سوريا!). لا مسيحيين في البلد إلا الغطاء، أو المنضوين تحت العباءة. وكل من قال أنا مسيحي، خيرٌ له وأَسلَم، أن يتصدى للطرف المسيحي الذي أثار حفيظة حزب الله، بدلاً من أن يتولى الأخير مهمة تأديبه وإعادته إلى حجمه بأغلى الأثمان.

وبالموازاة، يُقدَّم الكشافة اليافعون، بعشرات الآلاف في أقل تقدير، مقاتلين جاهزين ومشاريع شهداء، حتى حين لا يضعهم الأمين العام في المصاف هذا (وللمراقب مثال صارخ في الفيديو الذي انتشر غداة معركة الطيونة لطفل خائف من الرصاص وصوت رجل يذكّره بما تم تحفيظه له عن أنه سيكبر ليصبح شهيداً مثل أبيه).

وكأنما في تداول مغردي الحزب، بأرقام الكشافة المهدويين، مزايدة على نصرالله نفسه، في التزيّن بالبأس والشكيمة ومقدّرات الحسم الميداني، ولو فقط بالـ"أشبال". والمدهش أنها الصورة التي تُعجب الجميع وتثير غيرة واسعة. فلم يبق حزب، بما فيهم "القوات"، إلا ونظّم في الحيز العام استعراضاً عسكرياً في مناسبة ما. الكل يريد أن يكون "حزب الله"، و"حزب الله" لا يريد لأحد أن يكون...

عنوان الـ76 ألف كشفي مهدوي، متداوَلاً ضمن هوبرة الـ100 ألف مقاتل، كان، في أي حالة طبيعية أخرى، ليُشعر الشارع، كل شارع وأي شارع، بما في ذلك الشيعي، بالذعر من عسكرة كل شيء وكل فرد، حتى الطفولة. ربما كان ليُعلي أصواتاً نقدية، مشككة، أو حتى معترضة، مما سمعنا بعض همساته المكتومة في فترة ازدياد تجنيد الحزب للمراهقين في مقابل تقاطر الجثامين الآتية من سوريا الأسد، واحتشاد مواكب التشييع شبه اليومية في القرى والمدن اللبنانية. لكن هذه الصورة تُصدَّر اليوم على طريقة من يزدان بجواهره ويعرضها للتفاخر، مُجرّدة، في العلب، رقم، "بلوك" ضخم، ترسانة، فزاعة.. أيقونات قوة، لا أثر بشرياً فيها، تماماً مثل الأيقونات المسيحية بلا مسيحيين لبنانيين، وطبعاً بلا إرادات ولا مطالب إلا ما يوافق عليه "مرشد الجمهورية".      
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها