المنمنمات التي تصور المولد النبوي معدودة نسبياً، وأقدمها تلك التي نجدها في نسخة عربية من "جامع التواريخ" لرشيد الدين الهمذاني، تعود إلى العام 1314. ونجد منمنمات تصور هذا المولد في مخطوط "جامع سير النبي" الذي أُنجز بطلب من السلطان مراد الثالث في نهاية القرن السادس عشر، وهذه المنمنمات تتبنّى أسلوباً تشكيلياً مغايراً يعكس جمالية فن الكتاب العثماني.
تشير سورة الضحى، إلى يتم النبي والنكبة التي حلّت بعائلته في صغره، إلا أنها لا تقدم رواية لطفولته ونشأته. جاء في هذه السورة: "ولسوف يعطيك ربك فترضى. ألم يجدك يتيما فآوى. ووجدك ضالا فهدى. ووجدك عائلا فأغنى" (5-8). بحسب تفسير الجلالين، "وجدك يتيما بفقد أبيك قبل ولادتك أو بعدها، فآوى بأن ضمّك إلى عمك أبي طالب. ووجدك ضالا عما أنت عليه من الشريعة، فهدى، أي هداك إليها. ووجدك عائلا، فقيرا، فأغنى، أغناك بما قنعك به من الغنيمة وغيرها، وفي الحديث ليس الغنى عن كثرة العرض، ولكن الغنى غنى النفس".
يُجمع أهل الاختصاص على القول بأن أول رواية طويلة لطفولة النبي ونشأته هي تلك التي نجدها في أقدم سيرة لحياة الرسول، وقد جمعها عبد الملك بن هشام الذي توفي في 833. تضمنت هذه السيرة أجزاء من سيرة لم تصل إلينا كاملة ألّفها إمام المغازي والسير ابن إسحاق. ونجد سيرة أخرى لطفولة الرسول في كتاب "تاريخ الأمم والملوك" للإمام أبي جعفر الطبري الذي توفي في 923، وفيها من الأخبار والروايات مما لا يذكره ابن اسحاق وابن هشام. شكّلت هذه السير الأولى أساساً لروايات جديدة نشأت عن حب وهوى وحسن قصد، ودخلت كتب كبار المؤرخين والمحدثين والرواة على مدى قرون من الزمن، مما ساهم في ترسيخ حضورها في الذاكرة الإسلامية الجامعة.
بحسب الرواية المتداولة، توفّي والد محمد، عبد الله، قبل أن تضع زوجته آمنة ابنة وهب، طفلها، وماتت الأم بعد سنوات فتولّاه جده عبد المطلب الذي توفي بعد مدة قصيرة، تاركاً الولد في عهدة عمّه أبي طالب. وفقاً للرواية التي نقلها ابن هشام عن ابن إسحاق، ظهرت بشائر النبوة في نور سطع على جبين عبد الله، قبل أن يتزوّج آمنة، ولما ذهب مع أبيه عبد المطلب ليقترن بابنة وهب، مرّ عند الكعبة بامرأة قيل إنها أخت ورقة بن نَوْفل، فعرضت عليه وقد رأت النور يتلألأ في غرته، أن يقع عليها مقابل مئة من الإبل، إلا أنه أبى أن يفارق والده ومضى معه، وتزوّج من آمنة، "وهي يومئذ، أفضلُ امرأة في قريش نَسباً وموضعاً"، ووقع عليها، فحملت برسول الله، وقيل لها: "إنك قد حملت بسيد هذه الأمة، فإذا وقع إلى الأرض، فقولي: أعيذه بالواحد، من شرّ كل حاسد، ثم سميه محمداً. ورأت حين حملت به أنه خرج منها نور رأت به قصور بُصرى، من أرض الشام".
يجزم ابن هشام، أن عبد الله توفي، وأمُّ رسول الله حامل به. وقد أرسلت آمنة إلى جده بعدما وضعته ليأتي وينظر إليه، "وحدّثته بما رأت حين حملت به، وما قيل لها فيه، وما أمرت به أن تسمّيه". وأخذ عبد المطلب الطفل إلى الكعبة وقام يدعو الله ويشكره، ثم عاد بمحمد إلى أمه. انتظرت آمنة وصول المراضع من بني سعد لتدفع بوليدها إلى أحداهن، على عادة أشراف العرب من أهل مكة. وكانت المراضع يُعرضن عن اليتامى، رغبة منهن في وافر الخير من الآباء، فلم تُقبلن على محمد، إلا أن واحدة منهن وتُدعى حليمة ابنة أبي ذُؤيْب السعدية، عادت وقبلت بمحمد حين لم تجد من يدفع إليها طفلاً. وفاضت بركات الرضيع على مرضعته، فشعرت بالحليب يملأ ثديها الجاف حين وضعته في حجرها، ووجدت من الخير والنعم التي تدفقت عليها وعلى أهل بيتها ما لم تعهده قبل ذلك.
الطفل الميمون المبارك
وجد المولد النبوي ترجمته التشكيلية في فن الكتاب مع بروز التصوير الديني في القرن الرابع عشر، وأقدم المنمنمات المعروفة التي تصور هذا الحدث هي تلك التي نجدها في نسخة عربية من "جامع التواريخ" لرشيد الدين الهمذاني تعود إلى العام 1314، وهي من محفوظات مكتبة أدنبره الاسكتلندية. تصوّر هذه المنمنمة مولد النبي في تأليف من ثلاثة أجزاء، يفصل بينها عمودان من الرخام. في الجزء الأوسط، تظهر آمنة ممددة أرضاً وهي مغمضة العينين وسط جمع مؤلف من خمس نسوة، ملتحفة بغطاء يكسو جسدها، مادة يدها في اتجاه ولدها.
يحيط بآمنة جمع من النسوة يقمن هنا بدور القابلات، كما في الروايات التي نقلها أهل السير. يخبرنا الطبري بأن والدة عثمان بن أبي العاص، شهدت ولادة آمنة بنت وهب ليلاً، حيث امتلأ البيت بالنور الذي غمر كل ما فيه، مما جعلها تشعر كأن النجوم تدنو لتقع عليها. وينقل ابن كثير عن القاضي عياض أن أم عبد الرحمن بن عوف كانت قابلة الرسول، وأنها سمعت حين سقط على يديها قائلاً يقول: يرحمك الله.
يظهر المولود الطفل بين يدي ملاك يحمله بين يديه ويرنو إليه بحنو، وقد صوّره الرسام مدثّراً بلحاف يلفه من أعلى الرأس حتى القدمين، كاشفاً عن وجهه فقط. ويظهر من خلف هذا الملاك ملاك ثان يبسط ذراعه، حاملاً مبخرة ذهبية تتدلى بين الأم والوليد. ويذكّر هذا المشهد بما رواه ابن عربي في "محاضرة الأبرار"، حيث تقول الملائكة لربّها: "إلهنا وسيدنا، يبقى نبيك هذا يتيماً"، فيقول لها الله عز وجلّ: "أنا له وليّ، وحافظ، ونصير. تبرّكوا به ميموناً مباركاً".
في طرف المنمنمة، خلف آمنة، يظهر شيخ متعمم يجلس على مقعد، متكئاً على عصا طويلة يمسك أعلاها بيمناه. هو عبد المطلب الذي أسرع وأخذ الطفل بين يديه، وسار به حتى دخل به الكعبة، وسمّاه محمداً. في المقابل، نجد عند الطرف الآخر من المنمنمة أربع نساء ينظرن إلى الطفل، وهن بحسب السيرة، المراضع من بني سعد، وقد جئن إلى مكة يلتمسن الأطفال لإرضاعهم. تتميز واحدة من النساء الأربع بانحنائها أمام الرسول، وهي تسند نفسها على عصا سوداء. نتعرّف الى حليمة ابنة أبي ذُؤيْب السعدية التي أرضعت محمداً، وقد ظلّ النبي يحفظ لها خير الودّ ما عاشت.
يتكرر هذا المشهد بشكل مشابه في منمنمة تعود إلى نسخة من كتاب "مجمع التواريخ" لحافظ آبرو، أنجزت في 1425. تتبدّل الحلة التزيينية، وتغيب القابلات، وتحضر حليمة وحدها، غير أن التأليف العام يبقى هو نفسه. تضطجع آمنة وهي ملتفة بلحاف عسلي، ويحضر أمامها ملاك يحمل النبي الوليد، وآخر يحمل مبخرة. يجلس عبد المطلب متأملاً في هذا المولد من جهة، وتنحني حليمة السعدية وهي تتكئ على عصاها في الجهة المقابلة.
جامع السير
في مخطوط "جامع سير النبي" الذي أُنجز بطلب من السلطان مراد الثالث في نهاية القرن السادس عشر، نقع على منمنمات بديعة تصوّر المولد النبوي في حلل تشكيلية مغايرة. اللافت أن الرسام عمد هنا إلى إخفاء ملامح الأم والطفل، إجلالاً لهما، مسدلاً على وجهيهما قماشة بيضاء، وفقاً للتقليد المتبع في تزيين هذا المخطوط الضخم المؤلف من ستة أجزاء.
في أولى هذه المنمنمات، تبدو آمنة جاثية على قدميها، رافعة يديها إلى الأعلى تعبيراً عن دهشتها. يظهر الطفل الوليد عاري الصدر، مع لحاف أبيض يلف الجزء الأسفل من جسده، وتحيطه هالة نارية من الذهب الخالص، ترتفع إلى الأعلى لتملأ المحراب الذي يظهر في المشهد الخلفي. يتقدم من الرسول ثلاثة ملائكة، يحمل أولهم قرصاً مذهباً يدفع به في اتجاه الطفل، ويمسك الثاني بطرفي منديل أبيض، بينما يحمل الثالث إبريقاً كبيراً.
وفقاً للرواية التي نقلها ابن عربي في "محاضرة الأبرار"، عند خروج الطفل محمد من بطن أمه، "ظهر ثلاثة نفر، في يد أحدهم ابريق، وفي يد الثاني طست عليها أربع نواح، وفي يد الثالث حريرة مطوية". مدّ محمد يده وقبض على وسط الطست، فقبض على الكعبة التي جعلها الله له مسكناً. ونشر الملاك الثاني عندها الحريرة البيضاء التي حملها ليخرج منها خاتم النبوة ويزرعه بين كتفي الطفل بعدما غسله حامل الإبريق سبع مرّات.
في منمنمة أخرى من هذا المخطوط، تحضر آمنة وهي تحتضن ابنها أمام جمع كبير من الرجل والنساء يتقدمّه شيخ ذو لحية بيضاء هو قطعا عبد المطلب الذي حين سمع بولادة النبي فرح فرحاً كثيراً، دخل على أمّه آمنة، وقام عندها يدعو الله ويشكر ما أعطاه، وقال: "الحمد لله الذي أعطاني/ هذا الغلام الطيّب الأردان"، كما نقل الرواة.
في منمنمة ثالثة، تظهر آمنة في اللباس نفسه، وهي تنظر في اتجاه جمع من النساء، وتظهر عن يسارها حليمة السعدية وهي ترضع الرسول. بحسب الرواية التي نقلها ابن إسحاق، كان صدر حليمة جافاً من اللَّبن، فلم تستطع إرضاع ولدها، وحين ألقمت النبي الثدي درّ لبنها، وكان ذلك بركة منه.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها