الخميس 2021/10/14

آخر تحديث: 12:38 (بيروت)

"صور" عباس بيضون.. بين سعيد عقل والممانعة

الخميس 2021/10/14
"صور" عباس بيضون.. بين سعيد عقل والممانعة
عباس بيضون قارئا صور
increase حجم الخط decrease
تحت عنوان "منارات"، تعيد دار النهضة العربيّة في بيروت طباعة تجارب أولى لشعراء السبعينات، وتأتي في طليعة هذه التجارب "قصيدة صور" لعباس بيضون، وهي قصيدة طويلة ذات طابع نشيدي تصاعدي تدفقي متصل بوجدان الجماعة، تتكون من ثلاثة مقاطع: "البحر" و"صور" و"الخروج"، عن مدينة لبنانية تنهض من البحر، بصُوَر بصرية مكثفة:

كنتِ جزيرة وحصناً
وخاناً للمسافرين
لا يتسعُ نهاركِ للبناء
ولا يكفي ليلكِ للأحلام
لم تكن نجومكِ كبيرة ولا قمركِ لامعاً
لذا كان بحارتكِ يسقطون على السلالم
وجنودكِ يجفّون في الأبراج

كتب عباس بيضون قصيدته في بداية السبعينيات، نشرها أولاً في بعض المجلات الثقافية، من بينها "مواقف" و"شؤون فلسطينية"، وبقيت حبيسة الأدراج لسنوات، ثم صدرت في كتاب عن "مؤسسة الأبحاث العربية" العام 1985، ونالت اعجاب الأوساط الأدبية العربية، وكتب عنها وضاح شرارة وصبحي حديدي وكاظم جهاد وخالدة سعيد... وترجمت إلى الفرنسية، ويمكن وصفها بـ"النص المؤسطر"(بالمعنى الادبي)، والمدهش الذي حمل الكثير من الدلالات والتأويلات... ليس هدفنا هنا مقاربة نقدية للقصيدة، فقد كُتبتْ عنها مقالات دسمة في زمن صدورها وفي الفترات اللاحقة، وما كتبَ عنها في الماضي، نراه اليوم، إشارة الى التحولات التي طرأت على تلقي الشعر، وإشارة تحولات الكتابة نفسها، سواء الشعرية أم النقدية.

ما نود التركيز عليه الآن، هو مسألة جانبية، وأساسية في الوقت نفسه، وتتعلق بردّ فعل الشاعر سعيد عقل على كلمة في القصيدة، وأيضاً ردود أفعال بعض جهابذة "المقاومة" أو "الممانعة" من خلال بيان أصدروه ونشر في أحد مواقع الانترنت... العودة الى ردود الأفعال هذه، ربما للانتباه إلى طرق تلقي الشعر في العالم العربي، والحال أن كثراً يعرفون "رأي" سعيد عقل في قصيدة "صور"، فقد تحول "الرأي" نهفة شعرية شفاهية مقهوية، تنتقل مبهّرة ومعدّلة من لسان إلى آخر. ومن معرفتنا بأدوات سعيد عقل الشعرية وتمجيده لبنان وفينيقيا وقدموس وصيدون، نستنبط رأيه في قصيدة تخترق المألوف الشعري والزجلي وتتحدث عن مدينة فينيقية بشغف خاص. قال عباس بيضون في مقابلة مع قناة "الحرة": "لقد لامني الشاعر سعيد عقل عندما قرأ قصيدة صوْر وقال لي: أهكذا يا عباس تكتب عن صور؟ صور مدينة الخمسة آلاف عام تقول عنها أنها خان؟". ويضيف بيضون: "لقد أجبت سعيد عقل وقلت له: هذه صور التي تعرفها أنت في كتب التاريخ، أما صور التي أعرفها أنا فهي مدينة بائسة، حاراتها القديمة تطفح بالمياه الآسنة وتتجول فيها ملايين الجرذان، إنها بالنسبة إلي مدينة الجرادين".

يفهم سعيد عقل مدينة صور مثلما يفهم المرأة... المرأة في شعره دائماً منحوتة رخامية فينوسية، من الخيال من اللغة، من العالم الفضائي، كائن غير محسوس، وبلا يوميات، او هي مريم عذراء وأسطورة... ومدينة صور بالنسبة إليه هي "بطلة المدن"، التي صمدت أمام هجمات الإسكندر المقدوني، هي التي صدَّرت الحرف... لا يعرف سعيد عقل حارات صور ولا ناسها، ولا بحرها... بقيت في وجدانه محصورة في كتاب التاريخ، ويريدها أن تبقى هناك بصورتها الأسطورية، يريدها أن تبقى ضمن ثقافة البطولة، لا العالم السفلي والحياة اليومية...

كلمة "خان" في قصيدة عباس بيضون أزعجت سعيد عقل، وهي تعني "فندقاً صغيراً كان المسافرون ينزلون فيه ويتركون دوابَّهم لعناية خَدَمِه". وعبارة "جرذان ومياه آسنة"، أزعجت مجموعة من الممانعين. قالوا في تعليقهم الهذياني أو بيانهم الانترنتي "إن صور ليست مدينة للجرذان وللمياه الآسنة... صور التي تتحدث عنها (عباس بيضون) بسخرية هي مدينة الخمسة آلاف عام من الحضارة والعلم والثقافة والفتوحات والفن والتجارة والبطولة والمقاومة... صور هذه هي حاضرة فينيقيا، إنها سيدة البحار لقرون والمركز التجاري للعالم القديم. صور صدَّرت يوماً الحرف الى العالم، وهي مدينة الكرامة والعزة التي لم تعرف يوماً معنى الاستسلام او الهزيمة، هي مدينة المقاومة والتصدي، هي قلعة القوميين العرب في ثورة العام 1958 وهي عاصمة المقاومة... هي مدينة الحرمان والإهمال المتعمد لعقود خلت. وهي اليوم وبفخر مدينة دولة الرئيس نبيه بري وسماحة السيد حسن نصرالله"...

لم ينتبه سعيد عقل إلى نشيدية قصيدة صور وصُورها المدهشة، توقف عند كلمة. الأمر نفسه لدى الممانعين، توقفوا وقالوا وعظهم بسبب كلمة. لا سعيد عقل يعرف علاقة بيضون بمدينة صور، ولا جهابذة الممانعة يعرفون ارتباطه بها... يقول بيضون: "حين بدأتُ كتابة قصيدة "صور"، لم يدُرْ لي أنني أكتب عنها، عن مدينتي الأولى، لكن المكان تولّد تحت القلم محسوسًا متكاملاً لدرجة فاجأتني. كان في القصيدة شوقٌ مخبّأ إلى المكان لم أدرِ أنني أُضمره أو أنني أعانيه. كان المكان فوق المكان لأنني اخترعته، ولأن الشوق إلى الأمكنة واستشرافها هو ما جعلني شاعر مكان" ("مكاني الأول.. شهادة عباس بيضون" - "ضفة ثالثة").

وعدا عن الصورة المكانية التي قالها بيضون في قصيدة، ثمة صورة فرويدية قالها في حديث تلفزيوني مع قناة "الميادين": "صور" هي أُمّي، عندما أصل إلى "صور" أشعُر بأمان لأنني أشعر بأنّ علاقتنا بـ"صور"، علاقتنا بالمدينة التي نحن فيها، مثل علاقتنا بأُمّنا، توجد علاقة أوديبيّة؟ علاقة أوديبية بمعنى أنّنا نحن لا نعرِف ما هي، لكن نحن نحبّ هذه المدينة، من دون أن ننتبه نشعُر بأمان فيها". ويضيف بيضون: "الغريب الذي يمكن أن أقوله، إنني جئت إلى (مدينة) صور كبيراً. أنا لم أولَد في صور، أتيت إلى صور وكان لي من العُمر تسع سنوات. وفي الحقيقة، لم أعرِف علاقتي بصور إلاّ حينما بدأت أكتب قصيدة عن البحر. ورويداً رويداً كانت قصيدة صور، رويداً رويداً انتبهت إلى أنني أتحدّث عن مدينة، أتحدّث عن تاريخ، أتحدّث عن أرض وعن مكان. صور بالنسبة إليّ هي أمّ".
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها