الأحد 2021/10/10

آخر تحديث: 11:45 (بيروت)

خواطر رومانيّة: فرنسيس الذي لا يتأفّف

الأحد 2021/10/10
خواطر رومانيّة: فرنسيس الذي لا يتأفّف
اجتماع البابا بحلقة القديس ايريناوس
increase حجم الخط decrease
دخل الرجل المتجلبب بالأبيض قاعة البابا كليمنضس الثامن. ضجّت القاعة بالتصفيق. لكنّ التصفيق أنّى له أن يخنق الحقائق الكبرى. والحقيقة الكبرى أنّ الرجل يعرج قليلاً، وأنّ الشيخوخة أثقلت جسده، واستحوذت على محيّاه، وزيّحت محجريه بخطوط تعكس تقادم الزمن. بلى بلى، إنّه يعرف ذلك تماماً. هناك، في الطابق الأرضيّ، طلب من الذين يحفّون به أن يعلّقوا أيقونةً للعذراء مريم وهي تحترف الصمت. وحدهم الزوّار الذين تسترعي انتباههم دقائق الأمور ينتبهون إلى هذه الصورة المذهلة في رمزيّتها: امرأة واضحة القسمات تحجب رأسها بخمار خمريّ، وتحدّق في الناظر بعينين واسعتين واضعةً إصبعها على شفتيها. لعلّ الرجل المثقل بالبياض أصرّ أن تعلَّق هذه الأيقونة بالذات على مدخل بيته لا ليدعو زائريه إلى التأمّل في فضائل الصمت فحسب، هم الذين يأتونه كي يقولوا أشياء كثيرة، بل كي يتعلّم هو أيضاً ألّا يتأفّف، وذلك على الرغم ممّا يثقل كاهله المعطوب بالشيخوخة من هموم الكنائس المنتشرة في أصقاع الأرض. 
يحبّ الرجل المتجلبب بالأبيض أن يسمّي نفسه «أسقف روما». هذا هو اللقب الذي استخدمه حين قال له الأحبار في الكنيسة الجميلة التي رسمها ميكيلانجلو العظيم: «يا يورجي ماريو برغوغليو، لقد نصّبناك خلفاً للقدّيس بطرس وبطريركاً على كنيسة الغرب كي تقلع وتهدم وتُهلك وتنقض وتبني وتغرس». فإذا به يهتف بالجموع المحتشدة: «لقد ارتضى إخوتي الأساقفة أن يأتوا برجل من صقع بعيد بعيد كي يجعلوه أسقفاً على مدينة الرومانيّين». ثمّ أعلن أسقف المدينة الطاعنة في التاريخ، على الرغم من كثافة الشباب في شوارعها، أنّه سيّتخذ اسم فرنسيس، تيمّناً بالقدّيس فرنسيس الأسّيزيّ، لأنّ إصلاح الكنيسة هو مشروعه والفقراء هم أسياده. 
لم يتصالح فرنسيس مع بلاطه الحبريّ. ترك قصره الفاتيكانيّ الرحب، وما ينطوي عليه من جمالات العصور الغابرة، وحطّ رحاله في بيت متواضع في الحاضرة الفاتيكانيّة. حين استقبل حلقة القدّيس إيريناوس الأرثوذكسيّة-الكاثوليكيّة يوم السابع من أكتوبر الجاري، كان كمن يضيق بجدرانيّات عصر النهضة المتأخّر التي حفلت بها القاعة المستطيلة. لكنّ أسقف روما يعرف أنّه لا يقدر أن يغيّر التاريخ. حتّى الله نفسه لا يستطيع تغيير التاريخ، هكذا تكلّم أرسطو ذات يوم. والتاريخ يغصّ لا بأخطاء الرعاة وجهالات الشعب فحسب، بل يقيم أيضاً ارتباطاً وثيق العرى بين الجمال والغنى. وفي بلاط أسقف روما جمال كثير، لأنّ أسلافه أغدقوا مالاً كثيراً على عظام الفنّانين في عصر النهضة وزمن الباروك كي يزيّنوا الردهات والأروقة. غير أنّ البشر، إذا تزيّنوا بالحكمة، يستطيعون استخلاص العبر من التاريخ على الرغم من عدم قدرتهم على تغييره. وفرنسيس تعلّم من التاريخ أنّ الكنائس تحتاج ‏إلى عمليّة إصلاحيّة عميقة. وتعلّم من معلّمه المتواضع القلب أنّ التغيير لا يُفرض فرضاً. فالسلطة، إذا لم تقترن بالصبر وتتجمّل بالمحبّة، تحوّلت إلى إيديولوجيا جوفاء، أي إلى لا شيء. 
في السابع من أكتوبر، قال فرنسيس كلاماً مضيئاً عن القدّيس إيريناوس الذي أتى، في القرن الميلاديّ الثاني، من الشرق، من شمس آسيا الصغرى، كي يصبح أسقفاً في ليون من أعمال غاليا. قال إنّ أسمه اليونانيّ يحيل إلى السلام (إيريني)، ثمّ أردف أنّ السلام الحقيقيّ لا ينتج من اتّفاقات وتفاهمات تتحكّم فيها المصالح، بل يأتي من لدن المسيح القادر على كسر الحواجز بين البشر. كان يضفي على كلمته كثيراً من الحرارة والعفويّة في كلّ مرّة كان يخرج فيها عن نصّه المكتوب كي يضيف ملاحظةً من هنا وبسمةً من هناك. وفي لفتة تقديريّة لعمل المجموعة التي تضع، منذ سبع عشرة سنة، كلّ طاقاتها الإنسانيّة والعلميّة في سبيل تعميق الحوار بين الكنيستين الأرثوذكسيّة والكاثوليكيّة، تمنّى أن يتسنّى له أن يعلن قريباً القدّيس إيريناوس أسقف ليون معلّماً للوحدة، لما اضطلع به هذا الرجل من قدرة على مدّ الجسور بين الشرق والغرب ووأد الخلافات الكنسيّة وهي بعد في مهدها.
غادر أعضاء حلقة القدّيس إيريناوس الحاضرة الفاتيكانيّة وهم على موعد مع الصلاة، ومع عمل فكريّ مضنٍ يمتدّ مسافة ثلاثة أيّام كاملة. كانت المرأة الساكنة في الأيقونة المريميّة لا تزال، بحركة أسراريّة شفيفة، تدعو ناظريها إلى الصمت فيما عيناها تتّسعان وكأنّهما لوزتان أو زورقا نجاة.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها