الأحد 2021/10/10

آخر تحديث: 15:10 (بيروت)

الشِعر في مهرجانين مصريين: العامية تتحدى الاصنام

الأحد 2021/10/10
increase حجم الخط decrease
لماذا تنعقد المؤتمرات والمهرجانات الأدبية والثقافية في مصر؟ ولمن يتحدّث الأكاديميون والمنظّرون ويقرأ المبدعون أعمالهم في الاحتفاليات والكرنفالات التي تنطوي على عناوين عريضة وأهداف كبيرة معلنة؟


تبدو التظاهرات الإبداعية والثقافية ذات الطابع الأهلي والشعبي والاستقلالي هي القادرة على إيجاد إجابات ملموسة إيجابية عن مثل هذه التساؤلات وغيرها، من خلال ممارسات فنية وتقنية على الأرض، تأخذ بأسباب الظواهر وجوهر الأمور، لتصل بهذه الملتقيات والمناسبات إلى فعل جمالي تنويري مؤثر وجاد، يسهم في تغذية الفنون والآداب وتطويرها، وتعزيز القوة الناعمة، إلى جانب إحداث حراك اجتماعي مأمول. وفي حين يحدث ذلك ببساطة ومهنية واحترافية، فإنه على الجانب الآخر تقف الفعاليات والأنشطة المؤسسية الرسمية عادة عاجزة عن تجاوز الشعارية والطنطنة والاجترار، وتخطي عتبات النخبوية المزعومة بكل ما تحمله من أمراض التعالي والانعزال والدوران في الفراغ.

مفارقات كثيرة شهدتها الحالة المصرية مؤخرًا في مؤتمرين للشعر أقيما خلال الأيام القليلة الماضية، أحدهما شعبي مستقلّ حول "شعر العامية" بحضور مئات الشعراء الحقيقيين من أجيال مختلفة من سائر المحافظات والأقاليم المصرية، حيث جرت محاربته من المؤسسات الثقافية المتكلسة وإغلاق القاعات والمنابر في وجهه وتهديده بالإلغاء والمقاضاة وممارسة كل صور القمع ضده لإيقافه، لكنه أقيم ونجح بجهود المبدعين الأهلية، وحظي بحضور جماهيري طيّب وتفاعُل فاق التوقعات. والآخر مؤتمر رسمي بائس انعقد بمناسبة الذكرى الأربعين لرحيل الشاعر صلاح عبد الصبور (1931-1981) بعنوان "فارس الكلمة"، حيث جرى التهليل الإعلامي له حد الصخب، واستقطاب الأسماء الرنّانة، وفتح قاعات المجلس الأعلى للثقافة للكلمات المدبّجة والدراسات المشغولة والأشعار المحنطة، برعاية وزارة الثقافة وحضور وزيرتها إيناس عبد الدايم، ما يشي بوضوح إلى حرص المؤسسة الرسمية على خنق الحياة الطبيعية بآدابها المتجددة وفنونها المعاصرة والطليعية وذائقتها المتطورة، ومحاربة المبدعين الشباب في وجودهم وتوجهاتهم، والتكريس لعبادة الماضي وتقديس أصنامه.

فروق شاسعة بين الحدثين، اللذين شاءت الصدفة أن يأتيا متزامنين لتتضح ملامح نجاح أحدهما وإخفاق الآخر. في مؤتمر صلاح عبد الصبور الدعائي، زهد محبّو الأديب النابه وعشّاق تجديده الشعري وعبقريته المسرحية في ما انطوت عليه أوراق المؤتمر وأجواؤه وأمسياته من تكرار وضحالة وخواء. فالمؤتمر برمّته يأتي في إطار التكريم والتخليد والاحتفاء "البلاغي" باسم الشاعر وأسرته، وليس في إطار الدرس والتحليل المتعمق. وفي هذا السياق، جاءت الكلمات الرسمية للوزيرة، وهشام عزمي أمين عام المجلس الأعلى للثقافة، ومصطفى الفقي رئيس مكتبة الإسكندرية، والناقد جابر عصفور، وغيرهم، بحضور الفنانة معتزة عبد الصبور، ابنة الشاعر.

ودارت الجلسات في تهويمات عامة حول ما هو معروف بالضرورة من الدور الريادي لعبد الصبور في قصيدة التفعيلة "الشعر الحر"، والمسرح الشعري، إلى جانب الشهادات العاطفية حوله، والقراءات الشعرية الاستعادية لأعمال "فارس الكلمة"، الذي "فتح بابًا جديدًا في مسيرة الشعر العربي، وكان واحدًا ممن تجاسروا وخرجوا من عباءة القصيدة الكلاسيكية ليحفر مسارًا جديدًا في نهر الشعر، وأحد رموز الإبداع المصري ورواد حركة الشعر الحر والحداثة العربية، والذي شكلت إبداعاته وجدان كل عاشق للفن والحياة"، إلى آخر ما ورد في كلمة وزيرة الثقافة الإنشائية، التي كشفت بوضوح أن المراد بمثل هذه المؤتمرات "تكريم المبدعين من الرموز المضيئة الملهمة التي حلقت فى سماء الإبداع". ويتوازى ذلك مع إصدار دار الكتب والوثائق القومية بيبلوغرافيا عن أعمال عبد الصبور، وإعلان الهيئة المصرية العامة للكتاب تخفيض أسعار كافة مؤلفاته لتتاح للجمهور بأسعار رمزية، وتنظيم عدد من العروض المسرحية والمسابقات الشعرية من خلال قطاعات الوزارة للاحتفاء به.

لم يحظ أصحاب رابطات العنق بالمتابعة المنشودة والتأثير المرغوب فيه، على الرغم من الدعم الكبير للمؤتمر، ماديًّا حدّ البذخ والترف وإعلاميًّا حد الإلحاح اللزج، وتوفير القاعات والتجهيزات اللازمة والكافية لإنجاحه. وعلى الجانب الآخر، فقد تصدّى ملتقى شعر العامية المصرية (شارع العامية 2021) لكل التحديات والعقبات التي ألقيت عمدًا في طريقه، بداية من التخلي المؤسسي الرسمي عنه، مرورًا بإغلاق المنابر والقاعات أمام الشعراء، وصولًا إلى تهديد منظّميه بمقاضاتهم والتنكيل بهم حال إصرارهم على إقامة الملتقى في منابر وجهات حزبية وثقافية وأمكنة خاصة بديلة عن أتيليه القاهرة والهيئات والمؤسسات الأخرى التي اعتذرت عن عدم استضافة الملتقى في الساعات الأخيرة بقصد إفشاله وتصفيته.

لقد نجح مؤتمر العامية، برئاسة الشاعر سعيد شحاتة، في كسب الشعر والشعراء معًا بأقل القليل، وذلك بالانحياز إلى الناس والزخم والشارع المصري، الذي يتطلع إلى الفن الجوهري المتجدد، في أصدق صوره وأبسطها، ليشهد المؤتمر تفاعلًا جماهيريًّا كبيرًا في محافظات مصر المختلفة، ويشارك فيه قرابة خمسمائة شاعر، اتفقوا دون لقاء مسبق على إثبات أن العامية للجميع، والشعر للجميع، وتوزعت الأمسيات الحاشدة على منابر: آفاق اشتراكية، وبيت الشعر، ودار ميريت، وغيرها من الأمكنة في سائر الأقاليم. وتعود كلمة السر في هذا النجاح إلى أن الظاهرة الإبداعية المجردة هي الهدف الأوحد للمنظمين والمشاركين، من دون بيروقراطية وادعائية وشعارية وصراعات صغيرة ومصالح ضيقة.

لقد كان ملتقى شعر العامية، أو "شارع العامية"، مثلما يوضح سعيد شحاتة في حديثه إلى "المدن"، أحد الأحلام التي سعى للتأسيس لها في اتحاد كتاب مصر عام 2010، ثم قام بعمل ما يشبهه في أحد الأماكن بعدها بخمس سنوات، وحين همّ بتنظيمه هذا العام على مستوى أوسع "تم تهديده من قبل أحدهم بطرق فجة، لا يقبلها عقل ولا منطق". ويقول شحاتة موضحًا: "في هذا الملتقى، حاولنا ضرب فكرة المركزية والإصرار على الترسيخ لمقولة: الرأس الكاسح والجسم الكسيح، لذلك أعلنا قبل إقامته أن الملتقى عبارة عن ندوات وأمسيات وأنشطة تقام بالتوازي، أي أن الافتتاح في القاهرة يقابله افتتاح في سوهاج والفيوم والأقصر والبحر الأحمر وكفر الشيخ والمنيا وبقية المحافظات والمراكز، التي تطوع شعراؤها للتكاتف معنا كي نخرج بالشكل الذي يليق بهذا اللون الجماهيري البديع".

حضور خمسمائة شاعر، لم يفتح المجال لضم الأصوات الضعيفة كما ادعى البعض. فمثلما يستطرد شحاتة، فإن الشباب الذين قام المؤتمر على أكتافهم يمتلكون كلهم موهبة عظيمة، ولكل منهم صوته المتفرد، فكلهم مغردون، وكلهم دون استثناء متفردون في كتاباتهم، لذا نجحوا في جذب الأنظار، سواء في القاهرة أو في المحافظات الأخرى. ولم يضع الملتقى شروطًا للمشاركة بغية أن يقصي أو يجامل أو يستثني، ولكن إدارته وضعت برنامج القاهرة ونصب أعينها كل المواهب القوية والأصوات الجادة، وهذا ما حدث في المحافظات الأخرى أيضًا، فخرج ملتقى العامية في حلته الجديدة بهذا الشكل. وكل من شارك كان يسعى لتحمل نفقة أي شيء من دون أن يحصل على أي شيء.

والغريب، كما يختتم شحاتة، أن "هناك من خرج ليعلن أننا بهذا الملتقى ننزل الشعر من عليائه ونهدد كبرياءه ونتآمر عليه، وكأن شعر العامية شعر ملوك وسلاطين وبلاط قصور، وليس شعر شارع في الأساس! كما وجهت لنا تهديدات أغرب بالسجن، وقام أحدهم بتقديم شكوى في قسم قصر النيل! وقد خُيّرنا بين الإلغاء وإعلان الهزيمة، أو استكمال الأمر. وفي قلب هذا الغليان، استضافتنا دار ميريت للنشر ونادي آفاق اشتراكية وبيت الشعر، وأصر الجميع على استكمال الملتقى، ولتذهب التهديدات والثقافة المؤسسية والسلطوية إلى الجحيم".

 

 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها