إن "الاستعادية"، التي يرتضيها البهجوري مضطرًّا في معارضه الأخيرة، وفي المناسبات الاحتفائية بفنه، هي مرآة للحالة المصرية ككل، المنغلقة على ذاتها حدّ التشرنق. وإن الموت الإكلينكي للريشة، الذي يشير إليه، يتوازى مع تبدد الطاقة الإشعاعية والابتكارية في الفنون والآداب المتنوعة، وسائر جوانب الإبداع والفكر والمعرفة، المحاصرة بالتضييق والكبت والملاحقة القضائية والتجريم والتخوين، وربما التكفير في بعض الأحيان من جانب التيارات المتشددة والجماعات المتطرفة. وكذلك، فإن ما يرصده من تراجع الصحافة، هو أحد وجوه تخلي الإعلام المصري بسائر أشكاله المكتوبة والمسموعة والمرئية عن صدارته وريادته ومصداقيته ومهنيته، والسبب الأول لذلك أحادية الطرح ونمطيته ومجانيته، والإهدار الكامل للتعددية ووجهات النظر المتباينة.
إن إعلان البهجوري المأساوي الصريح موت الكاريكاتير، وهو ذلك الفن الذكي، المراوغ، القادر في أحلك الظروف على النجاة من الفخاخ التي تُنصب لفنون القول مثلًا، رقابيًّا وقانونيًّا، لهو في حقيقة الأمر أكثر مأساوية وصراحة في تضمّنه تأكيد موت فكرة الإبداع ذاتها، في مهدها، فالتعبير الموجّه أو الخائف لا يصنع إبداعًا محلّقًا بطبيعة الحال. أما الدوران في فلك الاستعادية فهو أمر بالغ البؤس بالنسبة للفنون البصرية، وماذا عن فنون كالمسرح والشعر والقصة والرواية والسينما والدراما التليفزيونية وغيرها، هل ستقتات هي الأخرى على الأوراق القديمة المحفوظة بالأرشيف، أم سيكتفي المبدعون في ما يطرحونه بالمتاح لهم بين القوسين من الإبداع المشروط، بعيدًا عن الخطوط الحمراء، لكي يتفادوا المشاكسة والمواجهة والصدامات والبطش والتنكيل؟
إن الإقرار الحزين بموت الكاريكاتير "فن الحياة"، على لسان البهجوري، أحد أعمدته الراسخين، على ما يحمله هذا الموقف من استسلام للأمر الواقع، يبدو اختيارًا أفضل، أو أقلّ سوءًا، لحفظ ماء الوجه، من ليّ عنق الفن المتمرد، وتكميمه، وتقليم أظافره، وإنتاج فن ممسوخ، مثلما فعل آخرون ممن انزلقوا إلى مجاراة التيار. فمن العبث تصوّر رسوم كاريكاتيرية ذات قيمة، وقد تجرّدت من خصائص الفن الأساسية وأبجدياته القائمة على التندر والمفارقة والتعرية والسخرية والانتقاد والاحتجاج والرفض وفضح السلبيات والانفلات من القيود والاجتراء الهزلي على ما هو جادّ ومحاسبة المسؤولين وجلدهم بقسوة أمام الرأي العام، وما إلى ذلك من سمات تشكل روح الفن وجوهره الأصيل. وهكذا حال أي لون فني أو أدبي يتمسك بمفرداته وأدواته، حرصًا على عدم امتهان الإبداع وترويضه وإخضاعه لحظيرة الانصياع والتسييس والتدجين.
أمر آخر وراء تفضيل البهجوري إخماد جذوة الإبداع نهائيًّا على الانتقاص من لهيبها أو تهدئة حرارتها، هو إحساسه بأن فنونًا كالكاريكاتير والغرافيتي والكوميكس، لابد أن تبقى ذات حضور جماهيري واسع، وتأثير ملموس في الحراك الشعبي بالشارع المصري، كما كان حالها مثلًا في ميادين ثورات الربيع العربي الحاشدة منذ سنوات قليلة. أما أن تتحول هذه الفنون الدينامية والتفاعلية من أسلحة للمقاومة ومنصّات للتغيير إلى مجرّد استعراضات جمالية منزوعة الفتيل والدسم، أو ألوان باردة بغير روح، فهذه هي النهاية بالتأكيد، التي تُولَد في رحم العزلة والشكلانية والانفصام عن متطلبات المجتمع وآماله، وهذا ما لا يرتضيه فنان كالبهجوري اقترنت أعماله وتجربته طويلًا بمفهوم المسؤولية. ومن ثم، فإنه يبحث عن ذاته، وعن مِصْرِه، في ماضيه، وماضيها، حيث كانت الفرشاة تنبض وتحزن وتضحك، تاركًا الحاضر المستهلك الفارغ لأصحاب المسالك الانتفاعية والمصالح الضيّقة.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها