لكن، وإن كان الصمت يبدأ من هذه الناحية، فهو يتبلور أكثر في نواحٍ أخرى، تلك المرتبطة بعودة الجنود إياهم الى وطنهم. فيكاد ذلك الصمت يكون صفة، أو بالأحرى مَركَبة تلك العودة، التي حملتهم لاحقاً الى تأسيس عائلاتهم بالاستناد اليها. ثمة هنا ملاحظة لا بد من تسجيلها في شأن تأريخ برانش لهذه العودة، وهو كيفية تقديمها لها بطريقة دراماتيكية. فها هم بعض الجنود، وما إن صاروا آباء، حتى مضوا الى حرق أو رمي الرسائل التي كانوا قد بعثوا بها الى زوجاتهم أو حبيباتهم آنذاك. أما بعض أغيارهم، فقبل أن يصيروا على شاكلتهم، استقبلتهم المستشفيات في أقسام الطب النفسي، حيث أمضوا وقتاً قصيراً ليتعافوا، أو هكذا ظنّوا، لا سيما حين يكون التعافي بالإنكار، راجعين الى "حياة طبيعية"، التي تُعدّ الانتحارات والكوابيس والانعزالات من ركائزها.
على هذا النحو، انطلق الجنود، وبصحبة عائلاتهم، الى الصمت، الذي سرعان ما حضوا أولادهم عليه، بحيث نقلوه لهم، وجعلوا من حربهم، والمشاركة فيها، موضوعاً غير موجود. أما أرض هذه الحرب، أي الجزائر، فبقيت مستترة، رغم جلائها في لغة الآباء، أي العبارات التي جلبوها معهم من تلك الأرض، ومعها بعض الأغراض من أوانٍ ولوحات وثياب وغيرها. فظلت الجزائر، في عيون أولاد هؤلاء الجنود، بعيدة، بل مجهولة، مع أنها قريبة بالعبارات والأغراض منهم، أو مع أنها بالأحرى حولهم.
على أن برانش، وخلال تأريخها للصمت، تؤكد أنه ليس مزاولة عائلية فحسب، بل إنه سياسة رسمية أيضاً. فالدولة آنذاك لم تقرّ بأن حرب الجزائر هي حرب، بل قدمتها كصراع، وبالتالي، فالعائدون منها ليسوا محاربين قدامى، بل مجرد جنود وقد أتمّوا خدمة العلَم. في النتيجة، لم تؤد الدولة، بسياستها هذه، سوى الى جعل عودة الجنود مبهمة، كما لو أنهم لم يذهبوا الى الحرب، ولم يرجعوا منها. بالطبع، بهذه السياسة كانت الدولة تريد طمس تلك الحرب، وفي طريقها الى تحقيق ذلك، طمست كل سِيَر هؤلاء، التي فتشت فيها برانش، فوجدت أن تلك الحرب ما زالت حاضرة هنا، كما أنها تريد أن تنصرف من تغييبها.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها