الأحد 2021/01/31

آخر تحديث: 11:56 (بيروت)

مذكرات مصطفى الفقي التي أغضبت عائلة مبارك

الأحد 2021/01/31
مذكرات مصطفى الفقي التي أغضبت عائلة مبارك
"لم أكن أعارض مبارك وجهًا لوجه
increase حجم الخط decrease
 

يُعَنْوِن الكاتب المصري مصطفى الفقي، مدير مكتبة الإسكندرية الحالي؛ والذي عمل في مواقع استراتيجية حسّاسة في قصر الرئاسة بالقرب من الرئيس الأسبق حسني مبارك في الفترة ما بين 1983-1992، مذكراته الضخمة الصادرة حديثًا في 512 صفحة عن الدار المصرية اللبنانية بـ"الرواية.. رحلة الزمان والمكان".

ويمضي الفقي (77 عامًا)، في توصيف كتابه بأكثر من صيغة، على غلافه وفي مقدمته وخاتمته وعبر فصوله الـ18، فهو ليس فقط "رواية" و"رحلة" كما يقول العنوان، وإنما هو كذلك عمل يرتبط ارتباطًا وثيقًا بـ"مسرح الحياة"، و"مذكرات أروي فيها بتجرد شديد ما رأيت وسمعت".

ويستدعي الفقي، الحاصل على الدكتوراه في العلوم السياسية من جامعة لندن، لونًا آخر من الكتابات ذات الصبغة الإبداعية لتصنيف كتابه، هو أدب الاعتراف: "أبهرتني اعترافات دخلت التاريخ، بدءًا من جان جاك روسو، مرورًا بسير غاندي، ولويس عوض، وعبد الرحمن بدوي". وإمعانًا في عدم التحديد الذي سلكه المؤلف بشأن كتابه/ مذكراته/ روايته التي لم تكتمل، وفق تعبيره، فإن ناشره يتفق معه في هذا التوجّه: "ليست هذه صفحات مطوية من مذكرات شخصية، كما أنها ليست سيرة ذاتية، بل تتجاوز ذلك كله لكي تكون تعبيرًا أمينًا عن طريق طويل سلكه صاحب الرواية، مخترقًا عهود عبد الناصر مراقبًا، والسادات مشاهدًا، ومبارك مشاركًا".

ولعل هذا التشتت بين أكثر من مسمّى لأكثر من نمط كتابي قد يكون مقصودًا من المؤلف، فبمقدوره أن يزيح عن نفسه الحرج أمام المؤرخين مثلًا إذا انتقدوه في شأن ما، فيكون كتابه عندئذٍ "رواية إبداعية لا تخلو من التخييل". والعكس صحيح، فهو إزاء الحريصين على أبجديات السرد وفنيات الأدب الاعترافي مجرد مؤرخ، ليس من شأنه التقمص والاختلاق والتعبير الجمالي، وفي هذه الحالة أيضًا فإنه متحوّط لنفسه تمامًا، إذ يؤكد إيمانه بأن الإنسان هو "ابن الخطيئة"، و"ليس هناك من يحتكر الحقيقة أو يدعي وحده الصواب، فالواقعة الواحدة تختلف فيها وجهات النظر وفقًا لأطرافها، والحدث الواحد لا يتفق عليه معاصروه".

هي أوراق على قدر من الخطورة، ربما، لكنها بهذه المناورات المسبقة في تمريرها مباراة في الدهاء مثل سائر مباريات مصطفى الفقي التي اعترف بها صراحة في مذكراته، من واقع تيقنه أن دهاء التاريخ لا يرحم، والحياة في مجملها صعود وهبوط. وبالرغم من هذه الإشارات كلها إلى الاحتمالية وعدم اليقينية في ما يروي المؤلف، ويحلل، فإنه على الجانب الآخر يكاد يقول عكس ذلك، بتأكيده المطلق، هو وناشره، غير القابل للشك، أنه قد تحتّم عليه في كل ما سجّله أن يكون موضوعيًّا مجرّدًا نزيهًا شريف الكلمة صادق العبارة، واستعاد المؤلف في أولى صفحات كتابه مقولة نسبها إلى كافكا: "خجلتُ من نفسي عندما أدركتُ أن الحياة حفلة تنكرية، وأنا حضرتها بوجهي الحقيقي"، لتهيئة قارئه لاستقبال "وجه الحقيقة"، و"عين الصدق"، واستدعى في السياق ذاته مقولة إبراهيم ناجي "الصدق عمود الدين، وركن الأدب، وأصل المروءة".

يثير كتاب الفقي، سكرتير مبارك السياسي، جدليات كثيرة، أهمها ما يخص علاقته المباشرة بنظام حسني مبارك، ليس في الفترة الأولى التي كان فيها على وفاق كامل مع الرئيس ومنظومة القصر الرئاسي التي كان الفقي يعمل فيها باجتهاد، وإنما بعد خروجه من الرئاسة عام 1992، الذي سمّاه في أحد فصول الكتاب "ميلادًا جديدًا"، لاسيما في الفترة التي سبقت وأعقبت ثورة يناير 2011، حيث يحكي الفقي باستفاضة أنه عارض النظام بقوة، وحذره من الانهيار والسقوط، وأنه لا يُمكن أن يُحسب كواحد من رجالات هذا النظام وركائزه، إذ كان "مثقف دولة" وليس "مثقف سلطة".

إن المتأمل بدقة للتفاصيل والوقائع والمعلومات التي سردها مصطفى الفقي في كتابه، يجد يمسك بالعصا من المنتصف، يظنه مناصروه أنه من الحكمة والتعقل، ويحسبه معارضوه من التلون وعدم الثبات على مبدأ، على اعتبار أن الذي يمسك العصا من المنتصف هو "من ينوي أن يرقص لا أن يرفض" بحد مقولة الساخر الراحل جلال عامر.

لا يجد مصطفى الفقي غضاضة من توضيح "فلسفته" وشرحها، إذ لا يرى فيها ما يشينه: "لم أكن أعارض مبارك وجهًا لوجه، وإنما كانت معارضة متوارية بقدر الإمكان، لأنني أخشى غضبة السلطان، والخوف ظاهرة بشرية، وقد كان ارتباطي بالنظام على الهامش، لأنني كنت مشغولًا بالبحث والقراءة والكتابة وإلقاء المحاضرات والمشاركة في الندوات، وأميل إلى الحرية في تحديد مواقفي، وهو ما جعل النظام لا يعتبرني محسوبًا عليه".

هو في محطات رحلته كلها، التي يستدعيها بالتفصيل منذ تعيينه ملحقًا دبلوماسيًّا بالخارجية المصرية بقرار عبد الناصر عام 1966 حتى يومنا هذا، مثلما هو في مذكراته ذات المسمّيات والتوصيفات المراوغة، لديه من اللياقة واللباقة أن يكون على مسافات غير بعيدة من الأطراف المتناقضة وربما المتصارعة بدون أن يعرّض نفسه لمخاطرة واضحة أو خسارة فادحة. ويحكي الفقي أن الرئيس مبارك نفسه قال عنه لمعاونيه: "مصطفى الفقي؟ إنه ليس له ولاء لنا، إنه يلعب مراجيح الهواء بيننا وبين المعارضة".

ويصف الفقي هذه الوضعية الازدواجية التي التصقت به بأنها أمر غريب، على الرغم من أنه يثبتها في سرده عشرات الوقائع، ويقدّم تفسيرًا لها: "كانت المعارضة تحسبني على النظام، وكان النظام يحسبني على المعارضة، ولم أكن في الواقع محسوبًا على هذا ولا على ذاك، بل كنتُ وما زلتُ محسوبًا على مصر وحدها. في بعض الأحيان كانت صحف المعارضة تنتقدني، وفي الوقت نفسه يوجه لي إعلام النظام انتقادات حادة، علام كان يدلّ ذلك؟ يدل على أنني كنت أقف على الأرضية الوطنية بقدر ما أستطيع".

أشعل ما ذكره الفقي بشأن معارضته نظام مبارك في سنوات حكمه الأخيرة، ورفضه سيناريو التوريث، ووقوف النظام ضد فكرة ترشحه لأمانة جامعة الدول العربية "التي كنتُ آراني أهلًا لها"، غضب أسرة مبارك من صدور المذكرات. وبأسلوب قريب مما قاله والده، كتب علاء مبارك في تغريدة له "الفقي رجل الكاوتشوك، مرونة غير عادية، شخصية متلونة، يجيد اللعب على كل الحبال حسب الظروف والتوقيت، فقد الكثير من الاحترام للأسف"، ورد الفقي: "لن أنزل إلى مستواه، ولكني أؤكد أنه لم ينصف أحد حسني مبارك مثلما أنصفته على مدار السنوات الأخيرة بموضوعية وشفافية ودون تملق". وعاد الفقي ليفسّر أن وصف مبارك له بـ"مراجيح مولد النبي" نابع من أنه "مع الموقف الصحيح دائمًا، بعيدًا عن الأشخاص".

هكذا، ينفرد الفقي في نظرته بالجمع بين نقائض، فبمنظوره مثلًا أن المعارضة السياسية قد تكون في بعض الأحيان ذات ولاء كبير للحاكم، لكن هذا لا يمنعها من أن تكون لديها "فقط بعض الملاحظات" على الأداء، وأن ما قاله في مذكراته بشأن أخطاء نظام مبارك خصوصًا محاولته تمرير سيناريو التوريث لا يتعارض مع إشادته في المذكرات ذاتها بالدور الوطني الملموس لمبارك، الذي استحق العديد من الترقيات إلى مناصب رفيعة في سن صغيرة، ووصفه بأنه "إنسان صلب وقوي وبسيط للغاية ويمكن مناقشته في كل الأمور شريطة الجدية والإلمام الكامل بالموضوع".

إن عنف انتقادات أسرة مبارك لمذكرات الفقي، مبعثه إلحاحه في الخوض في ملف التوريث وتحالف السلطة ورأس المال، وما كشفه الفقي من أن هذا الملف كان خلافيًّا بين مؤسسات الدولة، وربما هذا الخلاف يفسّر شجاعة الفقي في إبداء رأيه فيه آنذاك بعدة مقالات صحافية لم يرض عنها أنصار فكرة التوريث. وحكى الفقي أن القوات المسلحة، شأن شرائح عريضة من الشعب المصري، لم تكن تقبل التوريث، وذات يوم قال له المشير محمد حسين طنطاوي، القائد العام السابق للقوات المسلحة: "البلد هتغرق، هل أحمد عز (رجل الأعمال) سيحكم مصر؟ هذا الأمر على جثة آخر جندي مصري". كما ذكر الفقي أنه أخبر علاء مبارك بمضمون مشابه، هو أن "الخيمة ستسقط، والدولة تسير إلى المجهول، ووارد أن تحدث ثورة بمصر مثل التي حدثت في تونس". وذكر الفقي أنه كتب مقالات موثقة حذر فيها من الزواج غير الشرعي بين الثروة والسلطة، ومن خروج العشوائيات وثورة الجياع.

ويستدعي الفقي تفاصيل ثورة 25 يناير في كتابه، ويقف عضو الحزب الوطني المنحلّ كعادته في مفترق الطرقات وهو يسترجع المواقف التي خاضها فعليًّا بطريقته في التواؤم مع الظروف، ففي 27 يناير طالب الفقي مبارك بإقالة الحكومة، وحل مجلسي الشعب والشورى، وإعلان سقوط التوريث. ومع أحداث موقعة الجمل في 5 فبراير أشار إلى أن هذا الأمر تم بدعم من بعض أثرياء الحزب الوطني و"فلوله"، وبعض بلطجية الداخلية، وبعض أساليب الوزراء المعروفين، وأعلن خروجه من الحزب الوطني. ويستطرد الفقي الذي يجد نفسه في هذه الفترة من بين صفوف المحتجين والثائرين: "واجهتُ صعابًا كثيرة، وسبابًا وشتائم من أرقام مجهولة اتصلت بي هاتفيًّا"!

ومن بين ثنايا السطور، يشير الفقي إلى أنه لم ينل حظه كما ينبغي في عهد مبارك، فهو أحد أبناء "الجيل المسروق"، الذين وُعدوا في بداية حكم مبارك بأن يحصلوا على أدوارهم، لكن في الوقت المناسب نظرًا لصغر أعمارهم حينذاك، ثم بعد أكثر من عشرين عامًا، قيل لهم: لقد أصبحت أعماركم أكبر من سن المطلوبين لتولي الوزارات والمناصب القيادية!

ولعل هذه المرارة المكتومة يكون لها تأثير أيضًا على مشاكسات الفقي في سنوات مبارك الأخيرة، فالرجل كما يحكي بطلاقة ودون مواربة لم يكن يقترب مجرد الاقتراب من شبهة إغضاب مبارك في أبسط الأمور. ففي عام 2000، توفي والد مصطفى الفقي، وسأله مبارك: "كم كان عمره؟"، فرد الفقي: "بالتسعينات". وقد اضطر الفقي وقتها للكذب، فلم يُخطر مبارك بأن والده عمره 79 فقط، وذلك خشية أن يتشاءم مبارك الذي تخطى السبعين من هذه المعلومة. وردّ مبارك على السياسي الدبلوماسي المحنّك، الذي يؤمّن ذاته دائمًا، ولا تفوته كبيرة ولا صغيرة، ولو في أحلك الظروف، ردًّا عجائبيًّا لا يناسب الموقف الحزين، حيث قال له: "عال.. عال"!

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها